النماذج اللغوية الكبيرة وسؤال القضايا الأخلاقية

Wednesday, March 13, 2024

بعد مرور آلاف السنين من الجدل الفلسفي، ما تزال هناك الكثير من القضايا التي لم تُحسَم بعد في مبحث دراسات الأخلاق؛ هذا المبحث الذي يمكن القول إنه عَرَفَ – رغم هذا – بعض التطورات خلال ما يقرب من 2,500 عام منذ أن أسس أفلاطون أكاديميته في أثينا.

الحقيقة هي أن دراسة الأخلاق ضرورية ما دام التفكير في القضايا الأخلاقية وقرارات الإنسان المتصلة بها يمكنها أن تؤثر على حياته وحياة الآخرين؛ غير أن هذه المقاربة قد تطورت اليوم، خصوصاً بعدما تمكن الإنسان – لأول مرة في تاريخه – من تطوير تكنولوجيا النماذج اللغوية الكبيرة القادرة على التفكير في القضايا الأخلاقية.

ولكن هل هذه النماذج قادرة فعلاً على التفكير في هذه القضايا؟

يهتم، مونوجيت تشودُرِي – أستاذ معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي – بدراسة قدرات النماذج اللغوية الكبيرة وأثرها على الإنسان واللغة والثقافة. وبهدف تعميق دراسته لهذا المبحث، قام الأستاذ بإعداد دراسة تنظر في قدرة هذه النماذج على التفكير في القضايا الأخلاقية واتخاذ قرارات بشأنها، سيتم تقديمها خلال فعاليات المؤتمر 18 للفرع الأوروبي لجمعية اللغويات الحاسوبية (EACL) في مالطا بتاريخ 17 مارس. يُذكر أن كلا من “أديتي خاندلوال”، و”أوتكارش أغاروال”، و”كومار تانماي”، وجميعهم من مايكروسوفت، قد أسهموا في هذه الدراسة.

الذكاء الاصطناعي والأخلاق

ويبحث تشودُرِي، الذي التحق مؤخراً بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي قادماً إليها من مايكروسوفت، مستوى توافق الذكاء الاصطناعي، المبحث الذي يهتم بدراسة وتطوير نظم الذكاء الاصطناعي واستخدامها بطرق تنسجم مع قيم الإنسان ومبادئه واعتباراته الأخلاقية. ويستلزم تحقيق هذا الانسجام ضرورة تصميم برامج ذكاء اصطناعي وأطر عمل تعطي الأولوية لرفاهية الإنسان وقيم العدالة والشفافية والمساءلة مع الحرص على تقليل الضرر وتجنب المخرجات اللاأخلاقية.

غير أن التمييز بين الأخلاقي واللاأخلاقي لا يكون واضحاً دائماً.

رغم أن القانون والدين قد يحظران أو يشجعان سلوكيات معينة ويمكن أن يوفرا التوجيه بشأنها من وجهة نظر أخلاقية، فإنه لا يوجد – في كثير من الحالات – قواعد محددة وواضحة يمكن للأفراد الرجوع إليها عند التفكير في المعضلات الأخلاقية التي قد تواجههم. والحقيقة أن طبيعة معضلة أخلاقية ما، هي عدم وضوح كيفية التعامل معها من الوهلة الأولى.

الثقافة واللغة يُعقدان أكثر التفكير في القضايا الأخلاقية.

فعلى سبيل المثال، تُشير ظاهرة “تأثير اللغة الأجنبية” إلى أن الأفراد عند مواجهتهم لمعضلة أخلاقية من المرجح اتجاههم إلى الخيار الأكثر “نفعية” عندما تُعرض عليهم المعضلة بلغة غير لغتهم الأم – التضحية بشخص واحد لإنقاذ خمسة آخرين. وتشير الدراسات إلى أن هذا الاختلاف “يبدو أنه مرتبط – كما توصل إلى ذلك شودري وزملاؤه – بانخفاض الاستجابة العاطفية عند استخدام لغة أجنبية، مما يؤدي إلى انخفاض تأثير العواطف على الأحكام الأخلاقية”. كما يبدو أن اللغة وعلاقة الأفراد بها تؤثر على كيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية.

هناك، باختصار، عدد من العوامل التي يمكن أن تجعل التفكير في القضايا الأخلاقية أمراً صعباً.

“عموما، يتسم المنطق الأخلاقي للبشر بتدني مستوياته، حيث أظهرت الدراسات النفسية أن البشر لا يفكرون في الواقع عندما تواجههم معضلة أخلاقية، وما يفعلونه هو الاعتماد على شعورهم الغريزي. والأمر ذاته يحدث عندما ننظر – يقول تشودري – إلى مشهد أو لوحة ونقول: ’إنها جميلة!‘ فنحن لا نفكر حقاً عندما نقوم بإصدار هذا النوع من الأحكام”.

وتابع تشودري موضحاً أن في مثل هذه الحالات، غالباً ما “يقوم الأفراد بإعادة النظر والتفكير في أحكامهم” عندما يُسألون عن الكيفية التي وصلوا بها إلى هذا الحكم بعينه، مما يعني بالنسبة لهم ضرورة إيجاد تبرير لحكمهم الذي توصلوا إليه.

ومع هذا، قال تشودري إن: “الأسئلة التي تسأل عن كيفية وصول الأفراد إلى حكم معين تساعد في تحصيل فهم أكثر حول ما إذا كانوا يفكروا بطريقة أخلاقية أم لا”.

تقييم منطق النماذج اللغوية الكبيرة الأخلاقي

لتقييم قدرة النماذج اللغوية الكبيرة على التوصل إلى أحكام أخلاقية، اعتمد تشودري وزملاؤه اختباراً نفسياً قياسياً يسمى “اختبار تحديد القضايا الأخلاقية”، والذي تم تطويره في سبعينيات القرن الماضي من قبل “جيمس ريست” من جامعة مينيسوتا. ويستند الاختبار أيضاً إلى عمل عالم النفس “لورانس كولبيرج” الذي دَرَّس في جامعة شيكاغو وجامعة هارفارد.

ويقدم “اختبار تحديد القضايا الأخلاقية” للمستجوبين سلسلة من المعضلات الأخلاقية التي يُطلب منهم تقييمها وتبرير أحكامهم عليها. وتطرح المعضلات الأخلاقية في الاختبار عادةً تضارباً بين مبادئ أو وجهات نظر أخلاقية متعارضة مما يشكل تحدياً للمستجوبين الذين يطلب منهم النظر في التبعات الأخلاقية وإصدار أحكام منطقية. الهدف من الاختبار هو قياس درجات الوعي الأخلاقي لدى المستجوبين وفقاً لـ “نظرية كولبيرج” التي تشير إلى أن مستوى وعي الناس الأخلاقي يتطور مع تقدمهم في السن.

وبدلاً من اختبار الأشخاص في “اختبار تحديد القضايا الأخلاقية”، يقوم تشودري باختبار ثلاثة نماذج لغوية كبيرة بست لغات هي: الصينية، والإنجليزية، والهندية، والروسية، والإسبانية، والسواحيلية. وتعد هذه الدراسة متعدد اللغات الأولى من نوعها التي تحاول بحث مدى قدرة النماذج اللغوية الكبيرة على التفكير في القضايا الأخلاقية باستخدام “اختبار تحديد القضايا الأخلاقية” و”نظرية كولبيرج”.

قام تشودري وزملاؤه في اختبارهم باستخدام تسع معضلات أخلاقية، أربع منها طورها الفريق وتم تأطيرها في سياق غير غربي لا يضعه اختبار كولبيرج لتحديد القضايا الأخلاقية في عين الاعتبار.

على سبيل المثال، هل يجب على المستأجر أن يتناول سراً طعاماً غير نباتي داخل منزله لأن المالك سمح له بذلك، حتى عندما تملي المعتقدات والأعراف الدينية في الحي خلاف ذلك؟ أو هل يجب على مطور البرمجيات أن يحضر ويدير حفل زفاف صديقه المفضل، أو يجب أن يغيب عن حفل الزفاف لإصلاح خطأ جسيم في برمجيات الخصوصية يمكن أن يعرض خصوصية العملاء للخطر؟

اختبر تشودري وزملاؤه في هذه التجربة كل من “شات جي بي تي” و”جي بي تي 4″، اللذين طورتهما شركة أوبن إيه أي. كما قاموا باختبار “Llama2chat-70B” الذي طورته شركة “ميتا”.

أظهرت نتائج الاختبارات التي قام بها تشودري مع فريقه أن أداء “جي بي تي 4” أتى مشابهاً لمستوى أداء طالب في الدراسات العليا. كما أن أداء “شات جي بي تي” و”Llama2chat-70B” كان جيداً، حيث تطابق مع مستوى التفكير في القضايا الأخلاقية لشخص بالغ عادي.

الملاحظ من خلال النتائج المتوصل إليها أن النماذج المستخدمة في التجربة قد أظهرت قدرة عالية على التفكير في القضايا الأخلاقية في اللغات الصينية، والإنجليزية، والروسية، والإسبانية، غير أنها لم تكن على القدر نفسه من الكفاءة في اللغتين الهندية والسواحيلية التي واجهت صعوبات فيها – لا سيما أن “Llama2chat-70B” لا يدعم اللغة الهندية.

كما أظهر التجربة اختلافات في الطرق التي تعاملت بها النماذج مع المعضلة نفسها في لغات مختلفة، ولم تخلص النماذج المستخدمة دائماً إلى النتيجة نفسها، حيث “يبدو أن الأحكام الأخلاقية باللغة الروسية تختلف كثيراً عن نظيراتها في اللغات الأخرى”.

وأوضح تشودري سبب هذه الاختلافات قائلا إن: “استخدام هذه الأنظمة للتفكير الأخلاقي قد يتسم إلى حد ما بالمنطقية، لكنه قد يتسم أيضاً بانحياز لقيم معينة وهذا أمر خطير”.

ويتوقع تشودري أن تصبح النماذج اللغوية الكبيرة قادرة على التكيف مع الأطر الأخلاقية المختلفة، مع التركيز على أهمية تمكين المستخدمين أو المطورين من دمج قيم محددة في النماذج لمزيد من التحكم وفق ما تتطلبه كل حالة على حدة.

ولا ينبغي – قال تشودري – للنماذج اللغوية الكبيرة أن تتم مواءمتها مع قيم بعينها، ولكن يجب تمكينها من التفكير في القضايا الأخلاقية ضمن سياقات قيمية متنوعة. كما ينبغي أن يكون المستخدمون أو المطورون قادرين على تحديد نوع المدخلات القيمية في النموذج الذي يطورونه، مما يوفر لهم تحكماً مناسباً أكثر لكل حالة.

أخبار ذات صلة