في هذه المقابلة التي أجرتها “هارفرد بزنس ريفيو العربية” مع البروفيسور إريك زينغ، رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وأحد أبرز علماء الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم؛ ستجدون كل ما تحتاجون لمعرفته عن أول جامعة على مستوى العالم للدراسات العليا المتخصصة ببحوث الذكاء الاصطناعي، والوجهة الرائدة لبحوث الذكاء الاصطناعي في المنطقة والعالم. وكان البروفيسور إريك قد انضم إلى الجامعة قادماً من جامعة “كارنيغي ميلون” حيث عمل أستاذاً مشاركاً في قسم أبحاث تعلم الآلة التابع لكلية علوم الكمبيوتر. والبروفيسور زينغ هو المؤسس ورئيس مجلس الإدارة وكبير العلماء لدى شركة “بيتوم”( Petuum) التي اختارها “المنتدى الاقتصادي العالمي” لعام 2018 كشركة رائدة في التكنولوجيا تعمل على تأسيس منصات تطوير الذكاء الاصطناعي الموحدة وأنظمة التشغيل الموجهة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي الصناعية العامة وواسعة النطاق. ويثق البروفيسور زينغ بقدرة جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي على ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي، تجتمع فيه ألمع العقول لرسم ملامح المستقبل الحقيقي للذكاء الاصطناعي. وأدرك تماماً حجم الأسئلة التي نود جميعاً أن نطرحها على هذه الشخصية العالمية الرائدة، لذلك حاولت تجميع أكبر قدر ممكن من هذه الأسئلة في هذا الحوار التفصيلي.
ما هو المفهوم الذي تقوم عليه جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بالنظر إلى تخصصها الفريد؟
البروفيسور زينغ: تعتبر جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي نتاجاً لرؤية طموحة ومفهوم جريء إلى أبعد الحدود. ويعتبر اسم الجامعة بحد ذاتها، والتي تحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة، بمثابة شهادة واضحة على مدى التزام القيادة الوطنية بالتعليم العالي. وعلاوة على ذلك، هي أول “جامعة متخصصة ببحوث الذكاء الاصطناعي” في العالم أجمع، مما يؤكد على أهمية الذكاء الاصطناعي كتخصص علمي ودوره الأساسي في المجتمع والدولة.
قليلة هي الجامعات التي تتخصص بموضوع أو مجال محدد في العالم. وتعتبر جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بمثابة فكرة جريئة وضعت بين أيدينا الكثير من الفرص لتجاوز الحدود المفروضة، وأود هنا أن أتوجه بالشكر والتقدير لقادة الدولة لمنحنا هذه الفرصة. ويعتبر تعريف “الجامعة” مشتقاً من مصطلح باللغة اليونانية القديمة بمعنى الكون أو كل شيء. لذلك، تعتبر مسألة وجود جامعة تركز على تخصص واحد بمثابة ابتكار غير مسبوق.
ومن خلال دراستنا لموضوع الذكاء الاصطناعي، نسعى إلى بناء الروابط بين هذه التقنية وعلم البيانات. ودون أي مبالغة، يؤثر الذكاء الاصطناعي على جميع التخصصات – الكيمياء والفيزياء وعلم الأحياء والعلوم الاجتماعية والرياضيات – التي تولد جميعها البيانات أو تضع مبادئ لفهم البيانات. وبات الذكاء الاصطناعي يتحول شيئاً فشيئاً إلى أداة يستخدمها الباحثون في جميع هذه المجالات لأداء وظائفهم أو وسيلة تمكنهم من جعل عملهم يستند إلى التطبيقات التي يمكن أن تؤثر على مختلف مجالات الحياة وأن تدفع عجلة النمو الاقتصادي. ويستحق الذكاء الاصطناعي قاعدة أكاديمية على المستوى الجامعي. ونحن بحاجة لتقصي واستكشاف كيفية رعاية وتطوير الذكاء الاصطناعي وتدريب الجيل القادم من العمالة الماهرة على تطبيقاته من أجل النهوض بالاقتصاد. ويحتاج المجتمع إلى استكشاف مثل هذه الفرص الجديدة لتأمين مستقبل للنمو والتنمية. ويمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على تطوير هذه الوظيفة وتحقيق نتائج مرجوة كهذه.
وعلى هذا النحو، توضحت معالم رسالتنا حول ترسيخ مكانة الجامعة كمركز للأبحاث الأساسية والتعليم والابتكار والتحول التقني في مجال الذكاء الاصطناعي. وبكلمات أخرى، جامعة دراسات عليا تركز على الذكاء الاصطناعي. كما نسعى للتحول إلى مركز رئيسي للعمل البحثي في المنطقة والعالم ومن ثم إجراء الأبحاث الأساسية والأنشطة التعليمية رفيعة المستوى.
وعادة ما تكتسب الجامعات سمعتها بفضل أعضاء هيئتها التدريسية وأبحاثهم ودورهم كمركز للتعلم. ومن أجل تطبيق هذا الأمر على مفهوم جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، نجد أنفسنا أمام رسالة أوسع نطاقاً تتمثل بإحداث تأثير ملموس على ثقافة الناس ونظرتهم لأبحاث الذكاء الاصطناعي وفهم ماهيته وكيفية تفاعله وتأثيره على المجتمع وطبيعة المشاكل التي يحلها. ولهذا السبب، أعتقد أن هذا المشروع يتمتع بأهمية كبرى وأن هذه الجامعة تستحق أن تحمل اسم ولي العهد وما ينطوي عليه هذا الأمر من ارتباط لفظي وفكري بكل جدارة.
باعتبارها جامعة للدراسات العليا، هل تقدم جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي درجة الماجستير في إدارة الأعمال أو درجات الماجستير الأخرى، أم أنها تمنح فقط درجات الدراسات العليا التي ترتكز على البحث العلمي؟
البروفيسور زينغ: باعتبارها جامعة بحثية للدراسات العليا تقدم برامج أكاديمية متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، توفر جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي درجات الماجستير والدكتوراه في الذكاء الاصطناعي. وبالنظر إلى أن الذكاء الاصطناعي يمثل مجالاً واسعاً، قمنا بتقسيم هذا المجال إلى تخصصات محددة مثل تعلّم الآلة، وهو الأساس المنهجي للذكاء الاصطناعي؛ وتخصص الرؤية الحاسوبية الذي يستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لحل المشاكل المتعلقة بالعناصر البصرية؛ وأخيراً معالجة اللغات الطبيعية الذي يتعامل مع جميع الجوانب ذات الصلة باللغة أو الكلام. وفي المستقبل، نحن نهدف لإضافة تخصصات نظم الذكاء الاصطناعي المتعلقة بالبنية التحتية الحاسوبية والمعمارية الحاسوبية الخاصة بالذكاء الاصطناعي. وسوف نعمل بعد ذلك على إضافة تخصصات الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية والتمويل وغيرها من القطاعات. وأتصور أنه في غضون ثلاث أو خمس سنوات قد نكون بحاجة لإنشاء المزيد من التخصصات الفرعية التي تتجاوز الذكاء الاصطناعي.
وقد رحبنا بالدفعة الأولى من طلاب الدراسات العليا القادمين من 29 دولة مختلفة ونستعد حالياً لاستقبال الدفعة الثانية. وتم قبول طلاب الدفعة الأولى ضمن اثنين فقط من البرامج الأكاديمية – تعلم الآلة والرؤية الحاسوبية، بينما ستشمل البرامج الأكاديمية المتاحة لطلاب الدفعة الثانية برنامج معالجة اللغات الطبيعية الذي أضيف إلى قائمة التخصصات.
ما هي معايير قبول الطلاب؟ وما هي السمات والمهارات التي تبحثون عنها في الطلاب المرشحين للالتحاق بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ولماذا؟
البروفيسور زينغ: نطبق جملة من المعايير العالية لقبول الطلاب، وهي إلى حد كبير معايير قياسية لجميع برامج الدراسات الجامعية والدراسات العليا، فعلى سبيل المثال، يجب أن يكون المرشحون حاصلين على متوسط درجات محدد (GPA) وكذلك الأمر بالنسبة لاختبار “توفل” (TOEFL) واختبار تقييم الخريجين (GRE)، إلى جانب مجموعة من المتطلبات المحددة الأخرى. وقد اعتمدنا بعضاً من أفضل الممارسات المعمول بها في أبرز جامعات الولايات المتحدة. كما نطلب من المرشحين كتابة بيان البحث العلمي الذي يوضح أهدافهم المهنية واهتماماتهم ونوعية المجالات التي يرغبون بالعمل عليها. ونطلب منهم أيضاً تقديم سيرة ذاتية شاملة وخطابات توصية من المشرفين عليهم لمعرفة ما إذا كانوا قد خضعوا للتدريب في مؤسسات معينة. وتشمل الاعتبارات الأخرى ما إذا سبق لهم إعداد أي أوراق في المؤتمرات البحثية، أو الانضمام إلى مشاريع بحثية محددة خلال دراستهم الجامعية أو فترات التدريب؛ وسماتهم الشخصية من حيث العمل الجماعي والتعاون والقيادة والانضباط والاستقلالية وغير ذلك. ويعتبر كل ما سبق بمثابة جوانب لا يمكن تحديدها من خلال متوسط الدرجات. وبالتالي، لا تحمل الشهادات والثبوتيات بحد ذاتها وزناً أكبر مما تستحق بالنسبة لمعايير القبول. فنحن مهتمون بتجاربهم، مثل حقيقة إن كانوا قادمين من خلفية بحثية حقيقية ومجالات ذات صلة، ومدى نضجهم لخوض غمار هذه البرامج الدراسية المتقدمة وبذل قصارى الجهود، وشغفهم وغرضهم من إجراء الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفي العادة، ينبغي أن يستوفي طلاب الدراسات العليا عدداً من الشروط، مثل الخضوع للتدريب الأساسي في الرياضيات وبرمجة الكمبيوتر والخوارزميات والنظريات، ولا تخرج جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي عن هذه القاعدة. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يشعر الطلاب بالفضول والشغف تجاه الذكاء الاصطناعي كتخصص علمي وأيضاً كمجال هندسي كي يشعروا بالسعادة والرضا تجاه دراستهم وعملهم في هذا المجال. وينطوي هذا الأمر على أهمية كبيرة بحق، إذ يبذل الناس قصارى جهودهم إن استمدوا الإلهام من شعورهم المطلق بالاهتمام والشغف لا من هدفهم المادي. وبالرغم من أهمية الهدف المادي، إلا أنه لا يجب أن يكون دافعهم الوحيد. وأبحث دوماً عن الدلائل التي تشي بشغف وحماسة المرشحين، كما أبحث عن الطلاب من أصحاب الفكر المستقل. وينبغي أن يكون هؤلاء الطلاب مرتاحين وأن يبحثوا عن أقصى درجات الاستقلالية والحرية لإجراء أبحاثهم وتطبيق حلولهم وأن يخرجوا إلى العالم ليصبحوا عوامل تمكين وركائز أساسية في أي خدمات يقدمونها ضمن عملهم. وتحمل القدرة على العمل ضمن فريق والتواصل والتفاعل مع الناس أهمية كبيرة أيضاً. لذلك يعتبر كل من الإعداد الأكاديمي، والشغف حيال موضوع الدراسة، والعقلية التي تتبنى قيم الاستقلالية والحرية، والقدرة على العمل ضمن فريق، بمثابة الجوانب التي أبحث عنها عند المتقدمين للالتحاق بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي.
بماذا تعد هذه الجامعة الفريدة طلابها؟
البروفيسور زينغ: تمثل هذه الجامعة برنامجاً أكاديمياً جديداً يطمح للتنافس مع أبرز الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في العالم. ويتمثل أول الوعود بحصولهم على فرصة الخضوع للتدريب تحت إشراف أفضل الباحثين في العالم. لقد بذلنا جهوداً استثنائية لاستقطاب هذه العقول العظيمة إلى جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، كان رئيس قسم تعلّم الآلة لدينا أستاذاً لامعاً ومميزاً في “معهد جورجيا للتكنولوجيا”، أحد أفضل كليات علوم الحاسوب في الولايات المتحدة. ونحن الآن بصدد تعيين عدد من الباحثين الآخرين القادمين من كليات بارزة أخرى في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من مناطق العالم.
وثانياً، يجب أن نضمن رعاية طلابنا وعدم تشتيت انتباههم بأمور كالاحتياجات المالية وظروف المعيشة وغيرها من الأساسيات، لذلك نقدم لهم منحة دراسية سخية تغطي كامل تكاليف الإقامة والدراسة هنا في الجامعة. كما نوفر لهم مرافق إقامة ممتازة وتأميناً صحياً، ونتكفل حتى بمصاريف سفرهم إلى مدينة أبو ظبي كي يتمكنوا من التركيز على التعلم وإطلاق العنان لقدرات الابتكار لديهم في المستقبل.
يقال إن الذكاء الاصطناعي لا يجسّد حلاً سحرياً لكل المشكلات، بل هو قابل للتخصيص وفقاً لكل مستخدم وبياناته. هل يمكننا تطبيق نظام أو برنامج أو حلّ قائم على الذكاء الاصطناعي على المستخدمين الأفراد؟ والجزء الثاني من السؤال هو، ما مدى سرعة التقدم الذي تحرزه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟ إذ يميل بعض المراقبين للاعتقاد بأن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي سيبلغ ذروته بشكل مفاجئ ليغير حياتنا بصورة جذرية.
البروفيسور زينغ: يشبه الذكاء الاصطناعي الإنسان، ويعني هذا الأمر أنه لا يمثل حلاً موحداً يصلح لجميع المشكلات؛ إذ لا يوجد شخص بارع في كل المجالات. ويمكن أن يصبح الإنسان مهندساً أو عالم رياضيات أو فناناً، لذلك يجب أن يتم كل شخص بطريقة مختلفة. وبالتالي، لا يتجاوز ما يسمى بالذكاء العام الاصطناعي مجرد كونه مصدراً للإلهام. ومن وجهة نظري، سيتبنى الذكاء الاصطناعي مقاربة “فرد تسد” حيث تتم معالجة المشكلات المختلفة من خلال مقاربة وإجراءات محددة على الصعيدين الاقتصادي والعلمي. لكن هذا الأمر لا يعني ضرورة التركيز على أدق التفاصيل وإنجاز كل مهمة باستخدام برمجية واحدة. وفي بعض الأحيان يتم تجميع المهام المتشابهة. فعلى سبيل المثال، في تطبيقات المدينة الذكية، يمكن لتكنولوجيا الرؤية الحاسوبية التعرف على العناصر المتواجدة في الشوارع والمباني والأماكن العامة، وهي مجموعة متماثلة من المشاكل التي يمكن أن يعالجها أحد حلول الذكاء الاصطناعي. ومن ناحية أخرى، يمكن للذكاء الاصطناعي في بيئة المستشفى قراءة وتفسير صور الأشعة المقطعية والأشعة السينية. وهكذا يقسم البشر مهامهم. وبالمثل، أعتقد أن مجال الذكاء الاصطناعي يشهد حاجة عملية وأساسية حتى لإدراك هذا التقسيم للخبرات ونقاط القوة. ولكن هذا لا يعني أننا بحاجة لبناء كل حل من الصفر. كما أنني أشدد على ضرورة توحيد الحلول وإمكانية إعادة استخدامها. وعندما يصادف المرء هذين النظامين المختلفين للذكاء الاصطناعي دون أن ينظر إليهما كوحدة معقدة لا يفهم آلية عملها ولكن كمجموعة مركبة من الأجزاء الأساسية، فهو يبدأ بإدراك أن 80% أو 90% من هذه الأجزاء يمكن إعادة استخدامها في مواضع أخرى. وقد يكون الأمر يتطلب ببساطة منظوراً مختلفاً (معالج الإشارة) لمعالجة صور مختلفة. أو ربما يحتاج هذان النظامان إلى إعادة ترتيب ارتباطات خلايا الدماغ (خوارزمية التفكير المنطقي) من أجل التعرف على الوجه والأعضاء في صورة الأشعة السينية.
تقول بعض التقارير أن المستقبل سيشهد زوال مئات الملايين من الوظائف واستبدالها بالذكاء الاصطناعي، في حين يتوقع خبراء آخرون اعتماد متسارع الوتيرة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. بالنظر إلى التحول الرقمي الذي شهده العالم خلال فترة انتشار الجائحة، هل يمكن أن نشهد تحولاً مفاجئاً في طرق تطبيق حلول الذكاء الاصطناعي في العالم، وكيف تنظرون إلى المستقبل؟
البروفيسور زينغ: يعتبر تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بمثابة عملية مستمرة، على الأقل من الناحية التقنية، لا يمكن أن تشهد أي قفزات مفاجئة أو حالات شاذة أو منفردة. وتعتبر هذه العملية تراكمية إلى حد كبير إذا ما نظرنا إلى التاريخ الكامل لتطوير الذكاء الاصطناعي من وجهة نظر تقنية. وساد أيضاً تخوف من تباطؤ وتيرة هذه العملية في بعض الأحيان وتسارعها في أحيان أخرى، لكن طبيعتها تفرض الحاجة لمراكمة التطور قبل تحقيق أي إنجاز نوعي. ولهذا السبب، لا أرى أي تحولات غير متوقعة تلوح في الأفق. فعلى سبيل المثال، أذكر أنه قبل 5 سنوات كان الناس يتوقعون أنه بحلول الوقت الحالي ستكون الطرقات مليئة بالسيارات ذاتية القيادة في كل مكان تقريباً، ولم يحصل هذا الأمر بطبيعة الحال. وكان بمقدور الخبراء الحقيقيين توقع الحالة الراهنة نظراً لمعرفتهم بوجود عقبات تواجه التقنيات والأجهزة والبنية التحتية ويحتاج تجاوزها إلى بعض الوقت. ولكن الظواهر التي طرأت خلال فترة انتشار الجائحة والتي صاحبها ما يبدو كتحوّل مفاجئ نحو الوضع الطبيعي الجديد تعتبر بمثابة أمر غير ممكن الحدوث، إذ ينطوي أي تحول قائم على الذكاء الاصطناعي على مزيج معقد من التكنولوجيا والاحتياجات السياسية والاجتماعية وغيرها من الجوانب الأخرى. فعلى سبيل المثال، وبالعودة إلى موضوع السيارات ذاتية القيادة، لا يمكنني تصور إمكانية إنشاء شوارع خاصة بالسيارات ذاتية القيادة على غرار السكك الحديدية من أجل الحدّ من عوامل الخطورة المرتبطة بهذا النوع من السيارات؛ لكني أتوقع أن نشهد تطوراً تدريجياً على مستوى السياسات والممارسات القانونية والتأمينية وصولاً إلى الإدراك والسلوكيات البشرية بالتوازي مع تطور التكنولوجيا. وفي نهاية المطاف، لا يعتبر تطور الذكاء الاصطناعي العامل الوحيد الذي يدفع عجلة اعتماد هذه التكنولوجيا. لكن على أي حال، لا أعتقد أن هنالك حاجة للإلغاء الشامل للوظائف والمشاركة البشرية بسبب الذكاء الاصطناعي. وأعتقد أن تفضيل إنتاجية الذكاء الاصطناعي على إنتاجية البشر يعتبر ضرباً من ضروب الخيال، فهما ليسا بصدد التنافس. أعتقد أن الذكاء الاصطناعي والإنسان يسلكان مسار التطور والتعايش المشترك ويكمّل كلّ منهما الآخر في نهاية المطاف؛ إذ يجيد الذكاء الاصطناعي ما لا يجيده الإنسان، في حين يجيد الإنسان جوانباً تجسّد نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي. لذلك، لا أعتقد أن هنالك أي حاجة لأن يستهدف كلاهما حلّ ذات المشكلة. فعلى سبيل المثال، تعتبر الآلات الحاسبة أفضل بكثير من الإنسان في إجراء عمليات الحساب والجبر، لكن اختراع الآلة الحاسبة لم يؤد إلى إلغاء عدد كبير من الوظائف، بل طرح المزيد من فرص العمل في مجال صنع الآلات الحاسبة وساعد في تعزيز إنتاجية الإنسان. وفي حين تسببت السيارات بإلغاء وظيفة سائس الخيل وسائق عربات الأحصنة، إلا أنها ساهمت حتماً في توفير المزيد من الوظائف للإنسان في مجال صناعة السيارات. لذلك، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يجسّد فرصة رائعة تتيح للبشرية تعزيز مستويات الإنتاجية وعيش حياة أكثر سعادة حتى في بيئة العمل.
ما هي المهارات التي ينبغي على الطلاب أو حتى قراء هذه المادة الاستعداد لاكتسابها وتطويرها؟
البروفيسور زينغ: لا يجب أن يكون كل شخص خبيراً في الذكاء الاصطناعي، لكني أعتقد أن الإلمام بأساسيات هذه التكنولوجيا يعتبر بمثابة مهارة مهمة أو ربما قدرة أساسية ينبغي أن تتحلى بها الأجيال القادمة. وعلى هذا النحو، ينبغي عليهم معرفة ما الذي يمكن أن يحققه الذكاء الاصطناعي وما هي حدود ذلك، ومن ثم اختيار خططهم المهنية وأنماط حياتهم وفقاً لذلك. وبخلاف ذلك، ستطرأ مشكلة في إدارة التوقعات والإعداد المهني على الصعيد الشخصي وبالنسبة للمجتمع على حدّ سواء. فعلى سبيل المثال، إن تخيلت الذكاء الاصطناعي كمخلوق قوي قادر على القيام بكل شيء، فمن الطبيعي أن تتخلى عن القيام بأي شيء لأنك ستعتمد عليه. ولكن إن كنت تعلم أن الذكاء الاصطناعي قادر على أداء مهام معينة فقط ويتطلب بدوره أشياء أخرى، عندها ستتمكن من تهيئة نفسك للعب دور تكميلي، كأن تكون صانعاً لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أو مشغلاً لنظمه مثلاً. وفيما يتعلق بالتدريب الوظيفي، أعتقد أن القدرة على التعلم المستمر ستكون بمثابة المهارة الأكثر أهمية على الإطلاق بالنسبة للأجيال المستقبلية من القوى العاملة.
مستقبل التعليم والمهارات
خلال أزمة فيروس كورونا، تمكنت بعض الجامعات في دول المنطقة مثل الإمارات العربية المتحدة من الانتقال بسلاسة إلى نظام التعليم عبر شبكة الإنترنت في حين توقفت أنظمة التعليم في بعض الدول الأخرى بشكل كامل. بالنسبة لنظام التعليم عموماً، ما الذي يجب فعله الآن لتجاوز حالة الاضطراب الناجمة عن الدورات التعليمية المصغرة والدورات الضخمة المفتوحة وغيرها من البرامج التعليمية التي تقدم عبر شبكة الإنترنت؟
البروفيسور زينغ: من منظور البنية التحتية، ينبغي أن تحافظ الجامعات على ريادتها وأن تكون مستعدة للتعامل مع التحديات الحالية والمستقبلية على حد سواء. فعلى سبيل المثال، عندما انتشرت الجائحة وأجبرت الجامعات على الانتقال إلى نظام التعليم الافتراضي عبر الإنترنت، لم تستغرق جامعة “كارنيغي ميلون” سوى أسبوع واحد كي تنتقل بالكامل إلى نظام التعليم الافتراضي. وتمكنت أنشطة الأبحاث حتى من الانتقال بسرعة كبيرة بفضل الإعداد الجيد للبنية التحتية الخاصة بالجامعة إلى جانب مهارات المدرّسين والباحثين والإداريين. لكن العنصر الأهم الذي يجعل التعليم أساسياً ولا يمكن الاستغناء عنه هو البيئة؛ إذ يجب أن يوفر النظام التعليمي بيئة فريدة ومنقطعة النظير للابتكار والتدريب والأبحاث. وتعمل الجامعة الجيدة على تحديد البيئة التي توفر الموارد والحرية الفكرية والنظام المصغر المعني بتحفيز الأفراد على التفاعل المتبادل واحتضان الأفكار الجديدة وإجراء تجارب متنوعة يعتبر إجراؤها غير ممكن في أي مكان آخر. ويجب أن تبذل الجامعات قصارى الجهود في سبيل إرساء هذه البيئة وتقديم الحوافز المناسبة لتشجيع الطلاب على فعل ذلك. وتتمثل هذه الحوافز بمسألة تقدير الأشخاص ومكافأتهم على سعيهم المستمر لإشباع شغفهم في أثناء قيامهم بتوليد قيمة مضافة والتأثير على المجتمع. وانطلاقاً من موقعي كرئيس للجامعة، فكرت ملياً في كيفية إنشاء مثل هذه البيئة المحفّزة للعقول العظيمة بحيث يتمكن الطلاب من قضاء بضعة أعوام من حياتهم المهنية في حرم الجامعة لخوض تجربة هذه البيئة الفكرية والمساهمة في تحسينها.
باعتبارها جامعة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، كيف تقترحون أن يتم تحقيق الانسجام بين تصميم المنهج الدراسي ومجتمعات الأعمال بحيث تتمكن الأخيرة من اختبار النتائج الحقيقية لأبحاثكم؟
البروفيسور زينغ: بكل تأكيد، يبدي قطاع الأعمال وتحديداً مجتمع الأعمال الذي يستقطب المواهب والقدرات الفكرية من الجامعات حاجة كبيرة لهذه المواهب من أجل حلّ المشكلات التي يواجهها. ويتعين على الجامعة أن تتحمل مسؤولية تلبية هذه الاحتياجات. ويقدم وادي السيليكون مثالاً جيداً على ذلك كما هو الحال مع غيره من المناطق في الولايات المتحدة وأوروبا والصين. أعتقد أن أفضل الحلول يتمثل بأن يكون تكافل الجامعة مع الشركات الناشئة وبيئة الابتكار المحيطة بها مبنياً على أساس القدرات الفكرية الخاصة بالجامعة. ويعني هذا الأمر أن الجامعة سوف تطبق السياسات المناسبة وتستخدم النوع المناسب من البنية التحتية التنظيمية. وثمة حاجة ملحّة لنقل التكنولوجيا وتطبيق السياسات المناسبة في سبيل تمكين أعضاء الهيئة التدريسية من التعاون بشكل وثيق مع الشركاء الصناعيين وإيجاد الحلول المناسبة لمختلف المشكلات. وينبغي أن نحتضن بيئة تشجع أعضاء الهيئة التدريسية على التحلي بروح ريادة الأعمال وتأسيس شركات ناشئة قائمة على اختراعاتهم وابتكاراتهم.
هل يجسّد هذا الأمر جزءاً من رسالتكم؟
البروفيسور زينغ: بكل تأكيد يعتبر هذا الأمر جزءاً من رسالتنا. وإلى جانب منظومة الأبحاث والتعليم الأساسية، وضعنا آلية لاحتضان الشركات الناشئة ودعم رواد الأعمال. وبرأيي، لن يكون من المفاجئ أن نشهد ولادة بعض الشركات الناشئة في غضون بضعة أعوام لأن العديد من أعضاء الهيئة التدريسية يشرفون على طلاب يتمتعون بإمكانات هائلة ولديهم أفكار واعدة. وعلاوة على ذلك، هناك عدد من الشركاء الرائعين الذي يتطلعون قدماً إلى التعاون معنا، مثل “شركة بترول أبو ظبي الوطنية” (أدنوك). كما تتعاون جامعتنا بالفعل مع منصة Hub71، المنظومة العالمية لشركات التكنولوجيا في أبوظبي، من أجل تطوير حاضنات الأعمال. وبالإضافة إلى ذلك، قمنا بدراسة الطرق التي تتيح لأعضاء الهيئة التدريسية والطلاب المشاركة بفاعلية أكبر في منصة “جيت هاب” (GitHub) وغيرها من المنصات المشابهة من أجل تشجيع جوانب أخرى من الابتكار وريادة الأعمال. وأرجو أن تتمكن جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي من لعب دورها كمحفز ومركز لنقل هذه التكنولوجيا والابتكارات على نحو يحدث أثراً يتجاوز بلدان طلابنا ليشمل مختلف القطاعات واحتياجات المجتمعات حول العالم.