بقلم ديفيد والكوت
نُشر المقال الأصلي في مجلة فوربس
13 يونيو 2023
يمضي القرن الحادي عشر قدماً سنة بعد سنة، وتزداد معه أهمية الذكاء الاصطناعي وقدرته على إعادة تشكيل العالم من حولنا. ويعكس تطور الذكاء الاصطناعي حكمة الفيلسوف اليوناني هرقليطس الذي قال إن “الشيء الوحيد الثابت في الحياة هو التغيير المستمر”، إذ لا تحفّز هذه التقنية التغيرات في مختلف القطاعات فحسب، بل تدفع أيضاً عجلة الابتكار من حول العالم، ما يؤدي إلى تغيّر الواقع بوتيرة متسارعة. وبحسب شركة أكسنتشر، بإمكان تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحقيق وفورات سنوية بقيمة 150 مليار دولار في قطاع الرعاية الصحية العالمي بحلول عام 2026، وهي إمكانية هائلة تحاكي الإمكانيات التي يمكن أن تحققها هذه التقنية أيضاً في قطاعات أخرى.
ونظراً للتطور السريع والمتكرر الذي يشهده الذكاء الاصطناعي، تسعى مبادرات رائدة من حول العالم إلى الاستفادة من مزاياه وتسخيرها لتحسين العالم، أو في بعض الحالات لإثراء جبوب القائمين عليها. ومن ضمن الجهات التي تحاول استخدام هذه التقنية لخدمة البشر، تتميز جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بكونها جهة رائدة وأول جامعة مخصصة حصراً لإحراز التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي.
يعمل الذكاء الاصطناعي أساساً على إنشاء أنظمة تمتلك إمكانية الإدراك والاستدلال والتعلم والتفاعل ومنافسة قدرات البشر إن لم نقُل تخطيها، ولأنه تقنية ذات “قدرة كبيرة على الفهم”، تتخطى قدرته على المعالجة والتحليل والتعلم استناداً إلى كميات ضخمة من البيانات وبسرعة هائلة القيود البشرية، ما يسمح لنا بالوصول إلى كنوز جديدة من المعرفة. هذا ويعمل الذكاء الاصطناعي كمترجم يسهّل التواصل بشكلٍ شامل بين البشر والعالم الرقمي، إذ يبسّط ما هو معقّد ويكشف ما هو مخفي ويوسّع نطاق معرفتنا بوتيرة أسرع من أي وقت مضى.
يقول سقراط في ما يخص المعرفة البشرية إن: “الحكمة الحقيقية الوحيدة هي في معرفة أنك لا تعرف شيئاً”، ويدوي صدى هذه الحقيقة بالفعل. لا تسلّط هذه الحكمة المتناقضة الضوء على سعي الإنسان الدؤوب والمستمر لاكتساب المعرفة فحسب، بل تؤكد أيضاً على ضرورة تطوير فهمنا للأشياء.
ويقدم لنا مفهوم “التشابكية” الذي تم طرحه في ثمانينيات القرن الماضي نموذجاً مناسباً في هذا السياق. ويقوم هذا المفهوم على تصميم نماذج حاسوبية مستلهمة من الشبكات المتصلة التي تشكل الإدراك المعرفي لدى البشر، وهذه مقاربة يعتمدها رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي والخبير الشهير في مجال الذكاء الاصطناعي، البروفيسور إريك زينغ. ويسمح لنا مفهوم التشابكية باستخدام الشبكات العصبية وكشف أنماطها والصلات التي تربط بينها، والتي قد تغفل عنها الطرق التقليدية. بمعنى آخر، تحفّز هذه المقاربة إنشاء نماذج تنبؤية متقدمة وتحسّن فهمنا للظواهر المعقدة، بدءاً من العمليات الحيوية وصولاً إلى ديناميكيات السلوك. وهي بالتالي تجسّد حكمة سقراط لأنها لا تنفك توسّع حدود المعرفة لتوسّع مع ذلك حدود ما يمكننا تحقيقه.
والجدير بالذكر أنها مهّدت الطريق لموجة من التحولات التي طالت جميع القطاعات. في قطاع الرعاية الصحية مثلاً، ساهمت إلى حد كبير في تعزيز قدرتنا على تشخيص الأمراض في مرحلة مبكرة وتحسين فعالية العلاج وساعدتنا على إجراء بحوث تتطرق إلى مواضيع معقدة وغامضة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك التقدم المُحرز مؤخراً لمواجهة خطر وجودي في مجال الرعاية الصحية وهو المقاومة المضادة للميكروبات التي صنفتها منظمة الصحة العالمية في عام 2019 ضمن أكبر عشرة مخاطر تواجه الصحة العامة على المستوى العالمي. ويعني الاستنزاف السريع للمضادات الحيوية التي يمكننا استخدامها في صراعنا مع الميكروبات أننا بأشد الحاجة إلى حلول مبتكرة.
تم استخدام الذكاء الاصطناعي لهذا الغرض، وهي خطوة رائدة في مجال تطوير الأدوية. وعملت هذه التقنية على مسح آلاف الجزيئيات المضادة للميكروبات للتعرف على مركّب جديد مضاد للميكروبات يمكن أن يبدّل مسار علم الأوبئة الحالي. وتذكّرنا هذه الحالة بالعمل الثوري الذي قاده الدكتور محمد يعقوب في مجال تحليل التصوير الطبي ونظام “راديوميكس” والتصوير الطبي للجينوم في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وهو عمل يشهد على قدرة الذكاء الاصطناعي الهائلة على معالجة التحديات المعقدة في مجال الصحة.
يتطور مجال الذكاء الاصطناعي وراء الكواليس منذ عقود، وتنمو معه ثروات البعض. ولكن لم تصبح هذه التقنية سائدة ومُستخدمة على نطاق واسع إلا في الفترة الأخيرة. ويمكن هنا ذكر النمط الاستهلاكي الذي أصبح يرافق تقنيات الذكاء الاصطناعي، والذي دفعه بشكلٍ خاص برنامج شات جي بي تي، إذ إننا نشهد نوبة من الأنشطة التي تدفع مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة إلى الاستثمار بقوة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتعليمه وإجراء البحوث المتعلقة به.
ومن الناحية التجارية، خصصت الشركات التقنية الكبرى مثل جوجل وأمازون ومايكروسوفت كمية كبيرة من الموارد لخدمة المختبرات التي تجري بحوثاً في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، تعمل هذه القوى الصناعية بلا كلل على ابتكار تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحسينها وتوزيعها، علماً أن هذه التقنيات تحدث ثورة في مختلف القطاعات والخدمات كل دقيقة. والأهم أن هذه الشركات تقود تطوير نماذج لغوية كبيرة خاصة بها، ما يرسّخ بعد أكثر مكانتها في مشهد الذكاء الاصطناعي كجهات قوية لا منازع لها.
وفي وسط هذه الكوكبة من عمالقة التقنية، تلمع جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي نجماً يرشد الجهود الأكاديمية. الجدير بالذكر أن هذه الجامعة، والجهات التي تتعاون معها، تشكل إحدى المؤسسات الأكاديمية النادرة التي تبرز كجهة مختصة في تطوير النماذج اللغوية الكبيرة، لتقف جنباً إلى جنب مع جبابرة التقنية. وهي تجمع بين طبيعة العمل الأكاديمي الدقيقة والقائمة على الفضول من جهة والطبيعة العملية والمتمحورة حول الأثر للقطاعات الصناعية. يُبيّن ذلك أن الجهود الساعية إلى تطوير الذكاء الاصطناعي هي عالمية بطبيعتها، كما يشكّل سابقة تُبرز قدرة المؤسسات الأكاديمية الشرقية على التنافس مع نظيرتها الغربية، لتوجيه النقاش العالمي حول تقدم الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامه ومصيره في نهاية المطاف.
بغض النظر عما سبق، يستلزم إدماج الذكاء الاصطناعي في المجتمع تفكيراً معمّقاً ومتعمداً، شأنه شأن أي تطور تقني آخر. بعبارة أخرى، يجب تحقيق توزان عاقل ورشيد بين الإمكانيات المشوقة التي يعد بها الذكاء الاصطناعي على مستوى الإنتاجية والكفاءة من جهة والتداعيات الاجتماعية الأوسع نطاقاً من جهة أخرى، بما في ذلك التداعيات التي ندركها، مثل البطالة وزوال الخصوصية، وتلك التي لا ندركها بعد. ومن المفيد هنا التفكير في كلمات المفكرين أمثل سام هاريس الذي قال إن الذكاء الاصطناعي هو “أهم مسألة تواجه البشرية”. نجد أنفسنا اليوم عند مفترق طرق يدعونا إلى التأمل الذاتي في التقنية والتصارع مع أفكار أساسية حول الخصوصية والأخلاقية والتمييز والتقارب المروّع لغير المعروف غير المعروف.
ينادينا هذا العصر إلى اعتماد مقاربة متوازنة تسخّر القدرة المذهلة التي تقدمها لنا هذه التقنية لغرض تعزيز الابتكار ومعالجة المسائل الصعبة التي تواجهنا بعد أن فتحنا صندوق باندورا. أنذر المؤرخ يوفال نوح هراري من التداعيات الخطيرة للذكاء الاصطناعي، التي تستدعي وضع تنظيمات حذرة واستراتيجيات مبتكرة وتنظيم مناقشات عامة نشطة من أجل الحد من أي عواقب غير معروفة. في هذا السياق، تبرز جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كمنارة تنير درب السفن في البحار الهائجة التي يحرك أمواجها الاستخدام القائم على المصالح التجارية للذكاء الاصطناعي، وهذا يؤكد التزامها بإضافة الطابع الديمقراطي على هذه الأداة القوية والمؤثرة. والجدير بالذكر أن الجامعة، وبالإضافة إلى خوض غمار إنشاء نموذج لغوي كبير خاص بها، وهو هدف شبيه برسم خرائط المجرات غير المكتشفة، تلتزم التزاماً راسخاً في ضمان وصول الجميع إلى فوائد الذكاء الاصطناعي بما يتوافق مع مبادئ الديمقراطية الشاملة التي تعتمدها.
ها إننا نعبر بشجاعة هذه البحار المجهولة، وعلينا أن نضمن أن فوائد الذكاء الاصطناعي ستصل إلى جميع سكان الأرض وأن نتخلص من قيود الماضي التي تفرض ألا يستفيد من التطورات سوى القلة المحظوظين. يشكل الذكاء الاصطناعي اليوم جزءاً لا يتجزأ من حياتنا ويمتلك القدرة على مواجهة أكبر التحديات التي لطالما فشل الذكاء البشري في مواجهتها، من تغير المناخ إلى عدم المساواة وغيرها الكثير. إننا أمام عصر جديد لا مثيل له، ومصيرنا بين أيدينا، وعلينا أن نخطط للمستقبل بتمعّن وتروّ. باستطاعة الذكاء الاصطناعي أن يكون أكثر من مجرد أداة، إذ يمكنه أن يشكل محور التقدم العادل. تقود جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي هذا الطموح وتسعى إلى مواجهة أكبر التحديات من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي وإعادة هندسة الشفيرة نفسها التي تدفع الإنسان قدماً. وفيما نسير نحو هذا المستقبل الغامض، دعونا نضمن أن يبقى التقدم الذي نُحرزه واعياً وأن نسخّر قوة الذكاء الاصطناعي لتحقيق تحول اجتماعي حقيقي.
برنامج الروبوتات في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يقدم تجسيداً حياً للذكاء الاصطناعي عبر روبوتات قادرة.....
طلاب البرنامج التنفيذي لجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يطورون في مشاريع تخرجهم تطبيقات قائمة على الذكاء.....
استقبلت جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي 38 طالباً من طلاب الصف الحادي عشر من جميع أنحاء.....