رغم كثرة الحديث عن التطورات التي نشهدها في المجالات الميكانيكية والتكنولوجية بفضل الذكاء الاصطناعي، فربما يكون الأثر الأكبر للذكاء الاصطناعي في مجال علم الأحياء البشري.
فالذكاء الاصطناعي يُستخدم لتحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة البرق وتنفيذ مشاريع وبرامج مختلفة تهدف لفهم الجينومات والأنماط الظاهرية والأنظمة الحيوية وغيرها، ما يساعدنا على فهم جسم الإنسان بتفصيل أكبر بكثير من أي وقت مضى، وبالتالي معرفة كيفية السيطرة على الأمراض التي تصيبه وعلاجها.
كان هذا موضوع ورشة عمل بعنوان “الذكاء الاصطناعي في خدمة علم الأحياء” نظمها مؤخراً قسم تعلم الآلة في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وجمعت خبراء بارزين لاستكشاف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال علم الأحياء، ومناقشة أحدث المناهج، ونتائج البحوث الرائدة، والتحديات والفرص الرئيسية في هذا الشأن.
فهم علم الأحياء البشري
افتتح الورشة البروفيسور إريك زينغ، رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، مقدماً رؤيته لاستخدام الكائنات الافتراضية القائمة على الذكاء الاصطناعي في محاكاة الأنشطة الحيوية على جميع المستويات والتنبؤ بها وبرمجتها، ما يوفر بديلاً أكثر أماناً وأقل تكلفة لإجراء التجارب على الكائنات الحية.
وأوضح زينغ أن النماذج التأسيسية المتعددة الوسائط والمتعددة المقاييس يمكن أن تحدث ثورة في علم الأحياء والطب والرعاية الصحية من خلال السماح بابتكار تصاميم وإجراءات جديدة يمكن اختبارها وتعديلها في العالم الافتراضي قبل تطبيقها في العالم الحقيقي.
هذه الرؤية أيّدها لي سونغ، أستاذ تعلم الآلة في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، الذي قدم نماذج ذكاء اصطناعي تأسيسية للأنظمة الحيوية يمكنها تحليل البيانات على عدة مستويات، من تسلسل الحمض النووي والبروتين إلى التفاعلات الجزيئية والعمليات الخلوية. وبإمكان هذه النماذج أيضاً تنفيذ مجموعة متنوعة من المهام القائمة على التنبؤ، مثل تصميم البروتين والهندسة الخلوية، ما يوسع حدود البحوث في علم الأحياء ويحسن دقة التنبؤ في المهام المتعلقة باكتشاف الأدوية والهندسة الحيوية.
وبالمثل، عرض جان فيليب فيرت من شركة “أوكين” جهود فريقه في تدريب النماذج التأسيسية لعلم الأمراض الرقمي وربط الملاحظات البصرية بالمعلومات الجينومية.
وقدّم بيتر كو من “مختبر كولد سبرينغ هاربور” في نيويورك نهجاً مبتكراً آخر، موضحاً إمكانية تسريع الاكتشافات الحيوية من خلال تجارب افتراضية تُستخدم فيها توائم رقمية للخلايا، ومضيفاً أن الشبكات العصبية العميقة المزودة ببيانات تجريبية يمكن أن تمثل توائم رقمية للأنظمة الحيوية، ما يتيح إجراء التجارب والتحليلات الافتراضية على نطاق غير مسبوق ويمهد الطريق لمزيد من التجارب الموجهة والاكتشافات والتعلم العميق في علم الجينوم.
وفي موضوع علم الجينوم أيضاً، عرض برايان هي من جامعة ستانفورد نموذج (Evo)، وهو نموذج تأسيسي جينومي طويل السياق جرى تدريبه على ملايين الجينومات من كائنات حية بسيطة ويساعد في التنبؤ بكيفية عمل الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي والبروتينات. كما يمكن لهذا النموذج أن يساعد في تصميم أنظمة حيوية جديدة بفعالية أكبر وتحديد كيفية تأثير التغييرات الصغيرة في الحمض النووي على الكائنات الحية بكاملها.
وانتقل إيران سيغال من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بالحديث من الجينومات إلى الأنماط الظاهرية، مبيناً أن الذكاء الاصطناعي يسمح بجمع بيانات صحية مفصلة من مجموعات كبيرة من الناس، ما يؤدي إلى اكتشافات مهمة حول سماتهم الحيوية. وقال سيغال إنه من خلال عمله على مشروع “النمط الظاهري البشري”، درس أكثر من 25 ألف مشارك لتحديد العلامات الجزيئية، وطور نماذج ذكاء اصطناعي قوية يمكنها المساعدة في تشخيص وتوقع الإصابة بأمراض مثل السمنة والسكري وأمراض القلب.
وأوضح يو لي من الجامعة الصينية في هونغ كونغ أن النماذج اللغوية الكبيرة يمكن أن تلعب دوراً مهماً في فهم علم الأحياء البشري، ضارباً المثل بنموذج لغوي كبير دربه هو وفريقه على بيانات التأمين الخاصة بـ 123 مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية لتكوين فكرة شاملة عن جميع الأمراض المعقدة الشائعة. وقد مكّن هذا الفريق من التنبؤ بالعوامل الجينية التي تؤثر على هذه الأمراض، ما يساعد في التنبؤ بالجينات التي قد يكون لها دور في الإصابة بها وتحديد مواقع محددة في الجينوم.
تحسين التشخيص وتطوير الأدوية والرعاية الشخصية
هناك فرق بين معرفة المزيد عن جسم الإنسان وتوظيف هذه المعرفة لتحسين الرعاية الصحية. ومن هذا المنطلق، تناولت الورشة أيضاً كيفية الجمع بين الفهم الأعمق لعلم الأحياء والذكاء الاصطناعي لتحسين التشخيص وتسريع تطوير الأدوية وتخصيص العلاج والرعاية الصحية بدرجة أكبر.
فقد ناقش هويفونج بون من شركة “مايكروسوفت هيلث فيوتشرز” دور الذكاء الاصطناعي في تسريع التقدم في مجال الرعاية الصحية من خلال جعل الرعاية الصحة الدقيقة حقيقة قائمة. وتحدث عن بحثه الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وإنشاء توائم رقمية للمرضى، ما يسمح بإجراء تجارب دقيقة على العلاج، خاصة في مجال علم الأورام، مؤكداً أن الهدف من ذلك هو إنشاء نظام يتعلم باستمرار من البيانات الصحية الجديدة مثل السجلات الطبية الإلكترونية والصور والبيانات الحيوية المتعددة من أجل تحقيق المزيد من الاكتشافات الطبية الحيوية.
كان أيضاً موضوع اكتشاف الأدوية حاضراً بقوة في ورشة العمل، حيث تحدث زيف بار جوزيف من جامعة كارنيجي ميلون عن التقدم الكبير الذي تحققه شركات التكنولوجيا الحيوية والأدوية في تحليل البيانات الطبية الحيوية ونمذجتها، ولا سيما في مجال التصميم الجزيئي وتحليل البيانات السريرية. وأضافت ميخال روزن تسفي من شركة “آي بي إم ريسيرش” أن الذكاء الاصطناعي يحدث تحولاً في اكتشاف الأدوية من خلال تطبيق نماذج تأسيسية يمكنها معالجة معلومات مثل البنى البروتينية والجزيئات الصغيرة وبيانات الحمض النووي الريبوزي والتحورات الجينية، وهذا يمكّن العلماء من فهم العلاقة بينها، وبالتالي يساعد في تطوير أدوية جديدة.
كما تناولت شيرلي ليو من شركة “جي في 20 ثيرابيوتكس” موضوع اكتشاف الأدوية، موضحة أن دمج الذكاء الاصطناعي مع علم الجينوم يساعد في اكتشاف علاجات جديدة للسرطان. وتحدثت عن عمل شركتها التي تستخدم منصة اسمها (STEAD) تجمع بين البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وعلم الجينوم بهدف تحديد أهداف سرطانية جديدة وتطوير أدوية أجسام مضادة. وتحلل هذه المنصة بيانات الأورام لدى المرضى بسرعة وكفاءة للعثور على الأجسام المضادة المحتملة، ثم يتم ربطها بأهداف سرطانية محددة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وأشار كريستوف بوك من جامعة فيينا الطبية إلى أن الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة يحدثان ثورة في مجال هندسة الخلايا، سواء على مستوى علم الأحياء أو للأغراض العلاجية مثل علاج السرطان، موضحاً أنه يركز في أبحاثه على برمجة الخلايا البشرية وخلايا الفئران من خلال فهم التغيرات الكيميائية التي تنظم نشاط الجينات، وأن فريقه يجمع بين تكنولوجيا تحليل العينات الحيوية بإنتاجية عالية والشبكات العصبية العميقة وتحرير الجينوم على نطاق واسع لتطوير أساليب تعزز أداء الخلايا التائية المستقبلة للمستضدات الخيمرية في علاجات السرطان.
وبالمثل، قدم كريستوف فيناور من شركة “ستيلث ستارت أب” نهجه في التعلم العميق الذي يهدف إلى تحسين تصميم البروتين من خلال توليد تسلسلات متنوعة من بنية بروتينية واحدة، حيث تسمح طريقته بإنشاء مجموعة واسعة من التسلسلات مع الحفاظ على البنية البروتينية الأصلية، ما يسهل استكشاف الخصائص الوظيفية المختلفة، وهو نهج يمكن أن يؤدي إلى إيجاد طريقة أكثر كفاءة لفهم تنوع التسلسل وتصميم بروتينات وظيفية.
وفي ختام الورشة، تحدث فراس الخطيب من جامعة ماساتشوستس دارتموث عن لعبته على الإنترنت (Foldit) التي تسخر قوة عقول العلماء المواطنين لحل مشاكل طي البروتين المعقدة في علم الأحياء الحاسوبي، حيث أدت هذه اللعبة من خلال سماحها للاعبين بالتلاعب بالبنى البروتينية إلى اكتشافات علمية كانت صعبة المنال على الخبراء. وهذا يؤكد على الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في تطور علم الأحياء، ويبيّن أن التعاون بين البشر وأجهزة الحاسوب يمكن أن يسهم في التغلب على تحديات في علم الأحياء لا يمكن لأي منهما منفرداً التغلب عليها.
مي شعبان، طالبة الدكتوراة في قسم تعلم الآلة بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، تعمل على تطوير.....
محمد رضوان يشرح كيف يساعد نموذجه التنبئي، HuLP، الأطباء في تقييم كيفية تطور الحالات المرضية بالسرطان لدى.....
اقرأ المزيدعلماء من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ينجحون في تطوير أسلوب جديد يعتمد على التعلم العميق،.....