يواجه علماء الذكاء الاصطناعي اليوم تحدياً كبيراً يتمثل في محاكاة الذاكرة البشرية في الآلات؛ فالذاكرة تُعد عنصراً أساسياً في الإدراك البشري، حيث تتيح لنا تخزين المعلومات وتنظيمها واسترجاعها. ولكن محاولة تقليد الطريقة المعقدة والمتعددة المستويات التي يعتمد عليها الدماغ في تخزين الذكريات واسترجاعها مهمة صعبة في مجال الذكاء الاصطناعي.
هذا هو محور أبحاث سوريا نارايانان هاري، طالب الدراسات العليا في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، الذي تحدث عن آخر ما توصل إليه في أبحاثه خلال إحدى جلسات “حوارات بحثية” التي عُقدت مؤخراً في حرم جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بمدينة مصدر.
قال هاري في سياق حديثه عن الرابط بين علم الحاسوب وعلم الأحياء: “علم الحاسوب بحاجة ماسة إلى أفكار جديدة، وأعتقد أن علم الأحياء يزخر بأوجه تشابه كبيرة مع الحوسبة. على سبيل المثال، هناك دارات وعمليات حيوية يمكن أن نستلهم منها في بناء النماذج. ومن المثير حقاً أن نستحدث نظائر ميكانيكية مستوحاة من أنظمة حيوية. والذكاء هو أحد المجالات التي يمكننا تطبيق ذلك فيها.”
وتابع قائلاً: “ناقشتُ مع مشرفي البحثي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، مات تومسون، موضوع استرجاع الذاكرة في عام 2022، وتساءلنا عما إذا كان من الضروري أن يقوم نموذج ضخم أحادي البنية بالإجابة عن جميع الأسئلة. أدركنا أن طرق تفكيرنا الحالية في النماذج ما زالت تميل إلى اعتماد نموذج أحادي، وأن الطرق التي تتيحها علوم الحاسوب لتجزئة المهام ذات طابع رياضي بحت بشكل لا يمكن معه تطبيقها فوراً. لذلك لجأنا إلى علم الأحياء بحثاً عن حلول، وهناك وجدنا ضالتنا.”
جاء الحل من جزء في الدماغ البشري يُعرف باسم المهاد، وهو مسؤول عن فرز الإشارات الحسية والحركية وإرسالها إلى المناطق المناسبة في قشرة الدماغ لمعالجتها والاستجابة لها.
أشار هاري إلى كيفية إيجاد هذا الحل بقوله: “يتميز معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ببيئة عمل صغيرة ومترابطة وثقافة تشجع على التعاون، مما أتاح لنا إمكانية التواصل المباشر مع خبراء في مجال الذكاء البشري، وتعلمنا منهم المزيد عن طريقة عمل المهاد”.
ومضى قائلاً: “استلهمنا من علم الأحياء فكرة اعتماد نماذج أحادية موجهة وهياكل موجهة. فالمهاد يجد الاستجابة المناسبة للمنبه من خلال “مستودع” فيه مُدرب على القيام بمهام محددة عند تلقي منبه معين، حيث يطلق سلسلة من الاستجابات، ويرسل رسائل لأجزاء مختلفة من الجسم تسهم مجتمعة في اتخاذ إجراء معين استجابة لذلك المنبه. بلغة الحوسبة، إذا طُلب من نموذج حل مشكلة معينة، وكان بإمكانه الاستعانة بنماذج أخرى، فسيكون قادراً على العثور على النموذج الأنسب لحل تلك المشكلة”.
أوضح هاري أن عملية استرجاع الذكريات في الدماغ البشري تتم عبر مستويات متعددة. في المستوى الأول نسترجع تفاصيل محددة مثل تهجئة الكلمات أو الربط بين اسم اللون واللون نفسه أو صوت المفاتيح المختلفة. في المستوى الثاني تتضمن الذكريات ارتباطات أكثر تجريداً أو تعقيداً، مثل تذكر روائح معينة. أما المستوى الثالث، فيتناول عمليات واسعة النطاق، مثل تنفيذ مهام خوارزمية أو القيام باستجابة حركية مناسبة للمنبهات.
لنقارن ذلك مع أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية، التي يجري فيها استرجاع الذكريات بشكل أساسي عبر هياكل مثل “التوليد المُعزز بالاسترجاع”. فهذه الأنظمة تضبط النماذج لاسترجاع المعلومات المناسبة بناءً على “تضمين التشابه”، بمعنى الربط بين البيانات المتماثلة. ولكن نادراً ما تحاول هذه الأنظمة ضبط عملية الاسترجاع على مستويات مختلفة، مثل تحديد معالم هوية الأجسام أو قربها المكاني، بالطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري. وهذا بالضبط ما يسعى بحث هاري إلى تغييره.
هناك نهج ثانٍ يركز على الذاكرة الموزعة لتحسين عملية استرجاع الصور. فمن خلال تحليل مكونات الصورة وفقاً للتشابه الدلالي والقرب المكاني، يمكن للنظام استرجاع الصور بطريقة تحاكي كيفية فهم البشر للعلاقات البصرية. وهذا يسمح للنماذج الصغيرة التي تستطيع الوصول إلى قواعد بيانات منظمة وتم تدريبها على الاسترجاع بالتفوق على النماذج العامة الكبيرة.
وواصل هاري شرحه قائلاً: “الأمر بالنسبة لي يشبه التساؤل عما إذا كان شخص واحد لديه إمكانية الوصول إلى مكتبة ضخمة أكثر كفاءة من مجموعة أشخاص لدى كل منهم كتاب واحد فقط. فالذكريات في الدماغ البشري موزعة في كل مكان، وهناك “سجل مركزي” في الحُصين يحدد المكان الصحيح لاسترجاع الذكريات أو المعلومات المطلوبة. أريد أن أستكشف ما إذا كان بإمكاننا إنشاء نظير مماثل للذاكرة الموزعة يسمح للنماذج الأصغر بتحقيق أداء مماثل للنماذج الأكبر.”
جاءت مشاركة هاري في هذا الحوار في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بناء على دعوة من الدكتور إدواردو بلترامي، الأستاذ المساعد في علم الأحياء الحاسوبي، الذي يرى أن سعي هاري للتقريب بين الذكاء الاصطناعي وعلم الأحياء مهم لمستقبل الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي.
يقول بلترامي: “أعرف سوريا هاري كزميل منذ مرحلة الدكتوراة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، حيث التحق بمختبر مات تومسون بعد وقت قصير من إنهائي لبرنامج الدكتوراة. هذا المختبر مركز لجهود بحثية متعددة التخصصات انطلاقاً من أفكار وحوافز في علم الأحياء. وقد أمضيت فيه فترة أثناء عملي البحثي ولديّ الكثير من الأصدقاء الذين عملوا فيه”.
ويتابع قائلاً: “تقدم مسيرة عمل هاري وبحوثه مثالاً واضحاً على كيفية تقديم علم الأحياء أفكاراً يمكن ترجمتها إلى أساليب وتطبيقات في مجال تعلّم الآلة. الكثير من بحوث هاري كانت تركز على كيفية الاستعانة بأساليب تعلم الآلة لحل مشكلات في علم الأحياء. لكنه بدأ الآن يعمل في الاتجاه المعاكس، أي حل مشكلات تعلم الآلة عبر أفكار مستوحاة من علم الأحياء. هذا النوع من التفكير يتطلب فهماً عميقاً لعلم الأحياء والمشكلات التي يواجهها الباحثون فيه وطريقة تفكيرهم في حلها، وهو ما أسعى إلى ترسيخه في قسم علم الأحياء الحاسوبي الجديد، وكذلك في برامج الماجستير والدكتوراة التي سنطلقها قريباً”.
هناك صلة أخرى تربط كلاً من هاري وتومسون بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، حيث تعاون الاثنان مع باهي ثروت، طالب الماجستير في الجامعة، ومؤلفين آخرين من بينهم غوروبراساد راغهافان ودروفيل ساتاني وريكس ليو، في إعداد دراسة بحثية بعنوان “هندسة أنظمة تعلّم آلي مرنة من خلال سلوك مسارات ثابتة الوظيفة“، نُشرت في المجلة الأكاديمية المرموقة “نيتشر للذكاء الاصطناعي”.
أكد هاري أن العلاقة بين علم الأحياء والذكاء الاصطناعي ستزداد متانة في السنوات المقبلة، مشيداً بتقدم بلترامي وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، حيث قال: “أود تسليط الضوء على عمل إدواردو وجهوده في هذا المجال وفي التعليم. في المستقبل، سيطرح الكثير من الطلاب أسئلة صعبة حول علم الأحياء من خلال النماذج اللغوية، وسيصبح من المهم للغاية أن نعرف الحقيقة، وأن نفهم كيفية تقاطع علم الأحياء مع الذكاء الاصطناعي”.
واختتم كلامه قائلاً: “ما زالت العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وعلم الأحياء ضبابية في الوقت الحالي، وجهود جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في علم الأحياء الحاسوبي تسهم في توضيح الفوائد التي يقدمها كل منهما للآخر. هذه طريقة مهمة لفهم الحقيقة الأساسية بشكل أفضل، ومن ثم تكوين جيل جديد من الطلاب والباحثين أكثر إدراكاً ومعرفة”.
رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي والبروفيسور الجامعي إيرك زينغ، يعلن خلال فعالية نظمتها الجامعة تحت.....
مركز حضانة وريادة الأعمال بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يحتفي بمرور عام على تأسيسه ودوره الريادي.....
إدواردو بلترامي يشرح كيف ستمكن آخر التطورات في توفير خدمات رعاية صحية شخصية أفضل اعتماداً على تقنيات.....