لطالما كان الإنسان مهووساً منذ زمن طويل بفكرة أو تصور بناء آلات تبدو كالبشر وتتصرف مثلهم. ورغم أن هذه الرغبة القوية في تحقيق هدف بناء وتطوير هذه الآلات – أو كما تُعرف كذلك بالرجال الآليين – إلا أن هذه الفكرة غالباً ما قوبلت في الآن نفسه بمزيج من الفضول الذي يرافقه التشكيك.
وبالضبط هذا ما كان عليه حال البروفيسور يوشيهيكو ناكامورا، أستاذ علم الروبوتات بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، عندما بدأ دراسته الجامعية في اليابان خلال سبعينيات القرن الماضي، إذ لم يتخيل يوماً أن الروبوتات يمكن أن تكون محورا لبحثه الأكاديمي قائلاً: “كان الموضوع بالنسبة لي ضرب من الخيال ومن وحي قصص المانغا”.
وأوضح البروفيسور ناكامورا أن الوضع كان يصل مع الباحثين الذين كانوا يعملون في مجال الروبوتات – مخافة عدم أخذ عملهم على محمل الجد – إلى درجة وصف ابتكاراتهم في ذلك الوقت على أنها مجرد “أذرع اصطناعية” أو “أرجل اصطناعية” بدَلاً من وصفها على أساس اعتبارها روبوتات.
وعلاوة على هذا التحفظ الذي لف هذا التخصص، لم تكن – حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي – أي دوريات أو مؤتمرات أكاديمية تهتم تحديداً بمجال الروبوتات، وذلك رغم – يقول ناكامورا – “محاولات الأساتذة في تلك الفترة التي سعوا فيها إلى إرساء دوريات علمية تركز على الروبوتات بالشراكة مع جمعيات مثل جمعية الهندسة الميكانيكية أو جمعية الهندسة الكهربائية اللتين لم تبد أي منهما أي اهتمام بهذا الموضوع”.
ورغم هذه التحديات التي واجهت علم الروبوتات خلال فترة السبعينيات، إلا أنها شكلت مرحلة مهمة تعززت خلالها مكانة هذا المجال كمبحث أكاديمي، والتي تزامنت مع المرحلة ذاتها التي كان فيها ناكامورا يستكمل دراسته في جامعة كيوتو للحصول على درجة الدكتوراه.
يذكر أن البروفيسور ناكامورا كان طوال مسيرته الأكاديمية والبحثية مهتماً بدراسة رياضيات الحركة، وهو موضوع ثابت في بحوثه، رغم أن نطاق الابتكارات والتطبيقات التي أسهم فيها أو عمل عليها يبقى متنوعا. كما تعد رياضيات التحسين و “اللاخطية في الروبوتات، بالنظر إلى وجود العديد من الظواهر اللاخطية المعقدة في الروبوتات” من بين الموضوعات التي يهتم بها على حد تعبيره.
وعلى صعيد آخر، يذكر أيضا أن البروفيسور ناكامورا التحق – بعد فترات دَرَّسَ خلالها في كل من جامعة كيوتو وجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا – بقسم المعلوماتية الميكانيكية الذي تم تأسيسه حديثاً في جامعة طوكيو عام 1991، حيث دَرَّس وقام بإجراء بحوثه لمدة ثلاثة عقود تقريبا، ثم تم تعيينه أستاذا فخريا في عام 2020، وهو في الوقت الحالي بروفيسور في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي التي التحق بها العام الماضي.
لعبة المحاكاة
استلهم البروفيسور ناكامورا أفكار بحوثه من مجموعة واسعة ومتنوعة من المجالات، دخل فيها ما ارتبط بعلوم الأعصاب، وعلم النفس، وعلم اللغويات.
ويعد علم الأعصاب واحداً من أبرز المجالات التي استلهم منها البروفيسور أفكاره وخصوصاً في أعقاب ما أحدثته واحدة من أبرز الدراسات التأسيسية في هذا العلم أواخر تسعينيات القرن الماضي، والتي أحدثت تحولاً كبيراً عندما تمكن باحثون من تحديد مجموعة من الخلايا في أدمغة القرود تلعب دوراً بالغ الأهمية في الحركة والتعلم. أطلق العلماء على هذه الخلايا اسم “الخلايا العصبية المرآتية” بسبب ارتباطها الوثيق بعملية “المحاكاة” أو التقليد التي تجمع بين المشاهدة والتطبيق. وقد اكتشف الباحثون من خلال دراسة أدمغة القرود أن هذه الخلايا تكون نشطة ليس فقط عندما تراقب القرود سلوكا صادراً عن قرود أخرى، ولكن أيضا عندما تقوم بتنفيذ السلوك نفسه هي بنفسها.
توجد هذه الخلايا العصبية المرآتية أيضا في مجموعة متنوعة من الثدييات الأخرى بما فيها البشر، ويبدو أنها تلعب دوراً مهماً في عمليات التعلم واكتساب اللغة.
وكما وصف ناكامورا وزملاؤه في بحثهم المستلهم من هذه الدراسة التأسيسية حول الخلايا العصبية المرآتية، فإن النتائج التي توصل إليها علماء الأعصاب “تُشير إلى أن عملية التعرف على السلوك وتوليد السلوك يتكاملان ضمن إطار معالجة المعلومات نفسه” عند البشر.
الملاحظ أن المفاهيم البيولوجية لطالما شكلت مصدر إلهام لعلماء الحاسوب، والخلايا العصبية المرآتية هي واحدة من هذه المفاهيم التي قام ناكامورا بمواءمتها للاستفادة منها في مجال الروبوتات. وأوضح ناكامورا في هذا الصدد أن: “هدف فريقه البحثي هو تطوير طريقة تمكن الروبوتات أيضاً من تعلم وبناء المعرفة من خلال تقليد الآخرين على غرار ما يفعله البشر الذين يبدؤون ببناء المعرفة من خلال محاكاة الآخرين من حولهم”.
وعلاقة بما يسعى ناكامورا وفريقه البحثي تحقيقَه، أشار البروفيسور إلى أن أحد التحديات التي يطرحها تصميم برنامج يمكنه التعلم من خلال ملاحظة السلوك هو ضرورة أن يكون قادرا على تحويل تدفق المعلومات المتواصل التي يجمعها من بيئته المحيطة إلى سلسلة من الأحداث الملموسة التي يمكن تصنيفها إلى رموز – وتوضيحا قال ناكامورا: “النموذج الأساسي لذكاء حيوانات، وخاصة الثدييات منها، هو أنها تمتلك نوعا من الفهم الرمزي للعالم.”
من خلال تقسيم الحركة وتصنيفها إلى رموز، يمكن بناء مستوى إضافي في النظام، مما يسمح بتكوين علاقة بين هذه الرموز واللغة البشرية.
منعطف جديد
نجح ناكامورا وزملاؤه، خلال العقد الأول من الألفية، في تطوير طرق فعالة لحوسبة تفاصيل وديناميات الحركات البشرية المعقدة، والتي كانت تتطلب في السابق قدراً هائلاً من الموارد الحاسوبية. وقد شكل إنجاز ناكامورا وفريقه عمله البحثي خطوة مهمة في اتجاه تعزيز فهم كيفية إعادة إنتاج أو محاكاة حركة الإنسان باستخدام التكنولوجيا أو الآلات.
بعد الزلزال والتسونامي المدمرَين اللذين ضربا اليابان في عام 2011، استخدم ناكامورا خبراته لتطوير روبوت خُصِصَ للعمل في محطة فوكوشيما النووية التي غمرتها مياه التسونامي؛ وذكر ناكامورا متحدثا عن هذه الكارثة: “كان التسونامي حدثاً استثنائياً، وقد صدمنا جميعا” بتأثيره على اليابان، و”كان العديد من الباحثين في مجال الروبوتات في اليابان يرغبون في تقديم المساعدة للمجتمع.”
ودعماً منه لهذه الجهود، طور ناكامورا وفريق عمله البحثي تقنية هيدروليكية تم استخدامها في روبوت بشري الشكل، قاموا بنقله إلى المحطة النووية كجزء من مسابقة لتطوير تكنولوجيات جديدة لدعم جهود التعامل مع الأزمة في مفاعل محطة فوكوشيما النووي.
رغم أن الروبوت الذي تم تطويره لم يُستخدم في موقع المفاعل النووي، إلا أن التجربة أعادت توجيه مسار أبحاث ناكامورا الذي أكد قائلا: “ما زال بالطبع دافعي هو البحث العلمي والتحسين الرياضي، لكنني في الوقت نفسه أرغب في العمل على مشاريع يمكن أن يكون لها تأثيراً إيجابياً على المجتمع.”
واصل ناكامورا، في السنوات الأخيرة، عمله على تطوير التكنولوجيا المصممة لالتقاط ونمذجة الحركة البشرية. ويذكر أنه قام هو وزملاؤه في جامعة طوكيو، ببناء نظام لالتقاط حركات الرياضيين اليابانيين، بما في ذلك بطل في رياضة الجودو، وبطل أوليمبي في تنس الطاولة، ولاعبين في كرة القدم. وأوضح ناكامورا أن: “باستخدام أربع كاميرات فقط، تمكنا [أي فريق العمل] من التقاط الحركات البشرية ثلاثية الأبعاد دون الحاجة إلى أي تكنولوجيا أخرى.”
توجهات مستقبلية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي
قرر ناكامورا الالتحاق بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي لأنه كان معجباً إعجاباً كبيراً بها وبما تتوفر عليه من تخصصات متعددة وبما تتيحه من فرص فريدة ومتميزة للتعاون مع زملاء وخبراء وأكاديميين متخصصين في مجالات معالجة اللغة الطبيعية وتعلم الآلة والرؤية الحاسوبية.
لقد تطور علم الروبوتات بشكل كبير منذ أن بدأ ناكامورا حياته المهنية، مع وجود العديد من المجلات والمؤتمرات والجمعيات المهنية المخصصة لدراسته. كما أنه مجال مليء بالإمكانات للطلاب. قال ناكامورا: “أصبح المجال مزدحماً للغاية، ومن المثير للاهتمام أن نرى أن هناك العديد من الاتجاهات المختلفة في أبحاث الروبوتات التي يمكن للطلاب الاختيار من بينها”.
ورغم هذه الفرص العديدة في مجال الروبوتات التي يمكن للطلاب الاختيار منها اليوم، يعتقد البروفيسور ناكامورا أن الطلاب أنفسهم هم أفضل من سيحدد اتجاه أبحاثهم في هذا المجال قائلا: “أعتقد أن أفضل طريقة يمكن للطلاب من خلالها اكتشاف شيء جديد هي متابعة الاختلافات الدقيقة في اهتماماتهم وفي أبحاثهم الخاصة”.
برنامج الروبوتات في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يقدم تجسيداً حياً للذكاء الاصطناعي عبر روبوتات قادرة.....
عرفت كفاءة النماذج الكبيرة متعددةِ الوسائط تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، حيث إنها تعززت بقدرات جمعت بين.....