بالنسبة لكثير من خريجي جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، يُمثّل ارتداء العباءة والقبعة في يوم التخرج نهاية فصل وبداية فصل جديد في عالم الابتكار. أما بالنسبة لدانيال غِبري، أحد خريجي دفعة 2025، فإن هذه المحطة تتجاوز الإنجاز الشخصي لتصبح جسراً يصل بين عالمين مختلفين.
ينحدر غِبري من مدينة دقمحري الواقعة على بُعد نحو 40 كيلومتراً جنوب شرق العاصمة الإريترية أسمرة، وهو ينتمي لأول دفعة من الطلبة الإريتريين الذين تخرجوا من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. وأبحاثه حول ضغط النماذج اللغوية الكبيرة بحيث تعمل على الأجهزة المحمولة دون اتصال بالإنترنت لا تعكس فضولاً أكاديمياً فحسب، بل تمثل مسعى شخصياً نابعاً من التجربة التي عاشها ويستهدف إحداث تأثير في المناطق محدودة الموارد، بما في ذلك وطنه.
يتحدث غِبري عن الدافع وراء أبحاثه قائلاً: “لقد نشأتُ في مكان تتوفر فيه الإنترنت بشكل محدود وغير موثوق غالباً. وأعرف تماماً شعور الإحباط عندما يكون لدى المرء فضول وطموح ورغبة في التعلّم، لكنه يواجه عوائق مستمرة بسبب قلة الموارد الرقمية. لقد ترك ذلك أثراً عميقاً في نفسي وأعطاني حافزاً قوياً”.
يشير غِبري إلى أن رحلته إلى جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بدأت عندما كان يدرس هندسة الحاسوب في كلية الهندسة في ماي نيفحي بإريتريا. ففي عام 2019، وقع عليه الاختيار لنيل منحة الاستحقاق التي تقدمها وزارة التربية والتعليم الإماراتية لأفضل 100 طالب هندسة من بلاده. وهكذا فُتح الباب أمامه لمواصلة دراسته في دولة الإمارات العربية المتحدة مثل مئات الإريتريين قبله. ويضيف قائلاً: “كنت محظوظاً لكوني واحداً من هؤلاء المائة. وهكذا جئت إلى الإمارات العربية المتحدة، وغيّرت هذه الفرصة مسار حياتي”.
ضمّت دفعة 2025 في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ثلاثة خريجين من إريتريا، جميعهم استفادوا من سخاء الحكومة الإماراتية والمسار الذي وفرته لهم. في البداية، التحق غِبري بجامعة زايد حيث حصل على درجة البكالوريوس في تكنولوجيا المعلومات مع تخصص في الأمن السيبراني. وبدأ اهتمامه بدراسة الذكاء الاصطناعي عندما عمل باحثاً متدرباً مع الدكتور مؤيد العقيلي والبروفيسور محسن جيزاني في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. وهو يعبّر عن امتنانه لهما بالقول: “لقد كانا مشرفين رائعين فعلاً، ويرجع الفضل لهما في زيادة اهتمامي بهذا المجال”، مؤكداً أن البروفيسور جيزاني شجعه على البقاء ومتابعة دراسة الماجستير في تعلم الآلة بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي: “بصراحة، كانت خطتي أن أسافر إلى الخارج، لكن البروفيسور جيزاني كان يشجعني في كل مرة ألتقيه فيها على الالتحاق ببرنامج الماجستير هنا. كنت محظوظاً بقبولي في هذا البرنامج”.
في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، طوّر غِبري “iShrink”، وهي أداة تضغط النماذج اللغوية الكبيرة بهدف تقليل حجمها بحيث يمكن تشغيلها بشكل كامل على الهواتف المحمولة والأجهزة الطرفية دون اتصال بالإنترنت. وقد انطلق في بحثه من سؤال أساسي هو: ماذا لو لم يكن الوصول إلى الإنترنت شرطاً لاستخدام أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي؟ وأصبح هذا السؤال محور رسالته للماجستير.
يوضح غِبري الهدف من “iShrink” قائلاً: “تهدف هذه الأداة إلى وضع الذكاء الاصطناعي القوي في أيدي الذين طالما استُبعدوا من ثورة الذكاء الاصطناعي. فالأمر يتعلق بتمكين الناس من التعلّم والابتكار والتطور بغض النظر عن ظروفهم ومكان وجودهم”. ويؤكد أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تحدث تحولاً جذرياً بالنسبة للقاطنين في أماكن مثل الأرياف الإريترية، حيث الاتصال بالإنترنت متقطع أو شبه معدوم. ويضيف مستذكراً تجربته هناك: “كانت هناك أوقات يصبح فيها مجرد محاولة تحميل مستند أو مشاهدة مقطع تعليمي نوعاً من الرفاهية، وليس أمراً مسلّماً به”.
ويواصل غِبري كلامه قائلاً إن الطلاب في كليته السابقة كانوا يشتركون في نقطة اتصال واحدة بالإنترنت، أو يعتمدون على نسخة غير متصلة بالإنترنت من موسوعة ويكيبيديا تم تنزيلها كملف للدراسة. ولهذا فإن الأداة “iShrink” يمكن أن تنقل هذه الحلول البديلة إلى مستوى جديد عبر توفير الأنظمة الذكية بشكل فوري دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت. ويضرب مثالاً على ذلك بقوله: “تخيّلوا طلاباً في قرى نائية يستطيعون طرح الأسئلة والحصول على شروح عالية الجودة من معلم افتراضي قائم على الذكاء الاصطناعي، أو متدرّبين في المجال الطبي يستخدمون مساعداً يعمل من دون إنترنت لدراسة المصطلحات ومراجعة الحالات. فالأمر لا يتعلق بالكفاءة التقنية فحسب، بل بالتمكين أيضاً”.
لم يكن مشوار غِبري في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي خالياً من الصعوبات. وهو يعترف بأن فصله الدراسي الأول كان صعباً جداً، حيث يقول: “لم أستطع مجاراة الوتيرة السريعة. كانت هناك أشهر أستيقظ فيها عند التاسعة صباحاً، وأحضر المحاضرات، وأدرس طوال اليوم، ثم أنام في الثالثة فجراً”.
ولمواكبة متطلبات البرنامج، أمضى ساعات طويلة في منصات التعلّم عبر الإنترنت مثل كورسيرا، حيث ركّز على تعزيز معلوماته الأساسية في الرياضيات وسدّ الفجوات فيها. وهو يقول معلقاً على ذلك: “عليك أن تضبط مسار رحلتك بنفسك. هذه التجربة غيّرتني كثيراً على المستوى التقني والفكري والشخصي”.
ويؤكد غِبري أن الدعم الذي تلقاه من زملائه وأساتذته في الجامعة كان عاملاً أساسياً في استمراره: “كنت محظوظاً، حيث أحاطت بي مجموعة من الأشخاص الجيدين”.
وكانت ثمرة هذه الجهود، إلى جانب إنجاز أطروحته، نشر ثلاث أوراق بحثية (ورقتان في مؤتمرات علمية ومقالة في مجلة محكّمة) وكان آخرها مشاركته في المؤتمر الدولي الخامس للأنظمة البشرية الآلية الذي نظمه معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات واستضافته أبوظبي في وقت سابق من هذا العام.
لا تقتصر طموحات غِبري على مسيرته المهنية فحسب، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير. فرؤيته على المدى الطويل تتمثل في إتاحة الذكاء الاصطناعي في بلدان مثل إريتريا، حيث لا تزال البنية التحتية الرقمية متأخرة، لكن الفضول الفكري متقد. وهو يقول في هذا الشأن: “الإنترنت محدود في بلدنا. حتى في الكلية، كان علينا الذهاب إلى نقطة معينة يتوفر فيها اتصال ضعيف بالإنترنت يشترك فيه الجميع”، مضيفاً: “عندما أتحدث مع أصدقائي هناك، أجد أن كثيرين منهم لم يسمعوا أبداً عن “تشات جي بي تي” أو “جيميناي” أو أي من النماذج اللغوية الكبيرة”.
ويشدد ِ غِبري على أن هذه الفجوة الرقمية تمثل “تحدياً صعباً” يأمل في التغلب عليه من خلال الأداة “iShrink”: “الهدف هو جعل الذكاء الاصطناعي متاحاً للجميع بحيث يستفيد منه كل من لا يتوفر لديه اتصال بالإنترنت، ليس في إريتريا فحسب، بل في أماكن كثيرة أخرى”.
وتشكل اللغة تحدياً آخر، حيث تضم إريتريا تسع مجموعات عرقية لكل منها لغتها الرسمية، مما يجعل تطوير أدوات ذكاء اصطناعي محلية أمراً معقداً. ويوضح غِبري هذه النقطة بقوله: “يبلغ عدد سكان إريتريا نحو ستة ملايين نسمة. ورغم أن اللغة الإنجليزية شائعة في بعض المناطق، إلا أنها ليست لغة يتكلمها الجميع. نأمل في المستقبل أن نمتلك القدرات البشرية اللازمة لتدريب نماذج بلغاتنا المحلية”.
ولكنه يركز حالياً على مساعدة طلاب الجامعات المتعطشين للمعرفة والمعزولين عن الموارد الرقمية العالمية، حيث يقول: “في نهاية المطاف، سنرى كيف يمكننا مساعدة عامة الناس”.
يشير غِبري إلى إنه بعد أن أمضى ست سنوات في الدراسة الأكاديمية يتطلع الآن إلى اكتساب خبرة عملية في القطاع الصناعي قبل أن يفكر في العودة إلى البحث العلمي: “أتيحت لي الفرصة للتدرّب كمهندس ذكاء اصطناعي في معهد الابتكار التكنولوجي. كانت تلك أول مرة أتعرف فيها بشكل كامل على كيفية عمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في البيئات الإنتاجية. وقد استمتعت بوقتي هناك كثيراً”.
من خلال الاطلاع المباشر على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، اكتسب غِبري فهماً أكبر للتأثير الذي يمكن أن يحدثه عمله. وهو يؤكد أنه يريد في نهاية المطاف متابعة دراسة الدكتوراة، لكن ليس قبل التعرف على كيفية استخدام هذه التكنولوجيا على أرض الواقع. وسيحظى الآن بفرصة رؤية تأثير عمله من خلال وظيفته الجديدة كعالِم تطبيقي في شركة “إنسبشن” التابعة لمجموعة “جي 42″، حيث يعمل ضمن فريق مقره أبوظبي لتطوير حلول ذكاء اصطناعي مخصصة لقطاعات صناعية محددة.
كانت رحلة غِبري الأكاديمية من مقاعد الدراسة في كلية ماي نيفحي إلى عرض أبحاثه في مؤتمرات دولية حافلة بالنمو والتطور على جميع المستويات. وهو يعرف تماماً أن هذا كله كان بفضل الفرصة التي أتيحت له، ويعبّر عن امتنانه قائلاً: “أنا ممتن جداً للدعم الذي قدمته لي حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث منحتني فرصة غيّرت حياتي بالكامل”.
حضرت والدة غِبري وشقيقته حفل تخرّجه وشاهدتاه وهو يستلم شهادة الماجستير، في مشهد يعكس ما يمكن أن يتحقق عندما تتوفر الموهبة والفرصة، وعندما يُطوَّر الذكاء الاصطناعي ليس من أجل الربح أو المكانة فحسب، بل من أجل الناس.
يختم غِبري كلامه قائلاً: “آمل أن يكون هذا المشروع خطوة صغيرة تسهم في سد الفجوة الرقمية ومساعدة الآخرين على تحقيق إمكاناتهم بغض النظر عن مكان ولادتهم أو الموارد المتاحة لهم”.
ترحب أول جامعة في العالم مكرَّسة للذكاء الاصطناعي بالطلاب المتميزين من مختلف أنحاء العالم للانضمام إلى برامجها.....
طالبان من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يدفعان بحدود تطوير بحوث الرؤية الحاسوبية في شركة "ميتا"
جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تنطلق في عام أكاديمي تاريخي باستقبال 403 من الطلاب الجدد ومن.....