كثيراً ما يُستشهد بقصة اكتشاف المضادات الحيوية لتوضيح دور الصدفة في تقدم العلم. فعندما عاد العالم ألكسندر فليمنغ إلى مختبره بعد غياب طويل، وجد عفناً على الأطباق التي كان يزرع فيها البكتيريا. ولاحظ أن هذا العفن، الذي حدد أنه “بنسيليوم نوتاتوم”، يقضي على البكتيريا.
هذا الاكتشاف الذي جاء بالصدفة أدى إلى تطوير البنسلين وغيره من المضادات الحيوية التي أنقذت أرواح أعداد لا تُحصى من البشر على مدى القرن الماضي، حيث صار بالإمكان علاج العدوى المميتة سابقاً باستخدام بضعة أقراص.
ولكن حظوظ البشرية في مكافحة العدوى البكتيرية تنفد سريعاً، حيث تتطور الميكروبات وتظهر سلالات جديدة من البكتيريا تقاوم الأدوية التي كانت فعالة. وفي الواقع، فإن البكتيريا المقاومة للأدوية تظهر بوتيرة أسرع من سرعة تطوير علاجات جديدة. وبحسب دراسة حديثة، ستكون مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية مسؤولة عما يصل إلى مليوني حالة وفاة سنوياً بحلول عام 2050 ما لم يوجد حل.
نجح فريق من العلماء في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بقيادة شهد حردان، وهي طالبة دكتوراة في قسم تعلم الآلة في الجامعة، في تطوير نهج جديد يُسخر تعلم الآلة لتحليل السجلات الطبية الإلكترونية ومساعدة الأطباء على تحديد المرضى الذين يمكن أن تظهر لديهم مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية. ونُشِر ابتكار الفريق في مجلة تقارير علمية في وقت سابق من هذا العام.
تحليل السجلات الصحية الإلكترونية
أدى النجاح الكبير للمضادات الحيوية وكثرة وصفها للمرضى إلى تراجع فعاليتها بشكل متزايد. فالأطباء يصفونها في كثير من الأحيان دون التأكد من أن المريض مصاب فعلاً بعدوى بكتيرية، لأن تحديد السبب الحقيقي للعدوى يستغرق وقتاً، وإذا كانت العدوى قد تؤدي سريعاً للوفاة فلا يمكن الانتظار عدة أيام للحصول على النتائج من المختبر.
يهدف نهج تعلم الآلة الذي طورته حردان وفريقها للتنبؤ بإمكانية حدوث مقاومة من الميكروبات للمضادات الحيوية لدى المريض عند وصف مضاد حيوي معين له أو إصابته ببكتيريا معينة، وذلك عن طريق تحليل سجله الصحي الإلكتروني.
يقول محمد يعقوب، الأستاذ المساعد في قسم الرؤية الحاسوبية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وأحد مؤلفي الدراسة، في سياق حديثه عن أهمية هذا النهج: “السجلات الصحية الإلكترونية متاحة بسهولة، والمستشفيات في بلدان كثيرة تتبع طريقة موحدة لحفظها. ولكن هذه السجلات تحتوي أنواعاً كثيرة من البيانات، بما في ذلك البيانات الديموغرافية ونتائج التحاليل وملاحظات الأطباء”.
وهو يشير إلى أن كثرة المعلومات في السجلات الصحية الإلكترونية تجعل من الصعب على الأطباء تفسيرها في ظل ضيق الوقت في العيادة، مضيفاً أن “تعلم الآلة يمكنه تحليل هذه المعلومات بشكل أسرع بكثير”.
ويوضح يعقوب أن التحدي الرئيسي في تطوير نظام يمكنه التنبؤ بالمقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية بناءً على السجلات الصحية الإلكترونية هو تصميم مجموعة بيانات تسمح للخوارزميات بتفسير أنواع مختلفة من المعلومات، قائلاً: “كان علينا إيجاد طريقة لفهم البيانات الثابتة والبيانات المتغيرة مع مرور الزمن بطريقة ذكية حتى نتمكن من استخدام البيانات بشكل صحيح”.
هناك عدد قليل من الدراسات التي بحثت إمكانية استخدام نماذج تعلم الآلة للتنبؤ بمقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية عبر تحليل البيانات في السجلات الصحية الإلكترونية. والأبحاث السابقة ركزت على ما يسمى بمجموعات البيانات ذات النمط الفردي، معتمدة على نوع واحد فقط من البيانات في السجلات الصحية الإلكترونية. وهناك طرق أخرى تتطلب مساهمة كبيرة من البشر للوصول إلى توقعات.
هذه الدراسة التي أجراها علماء من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تمثل تقدماً في التنبؤ الفوري بمقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية، لأنها تستخدم ثلاثة أنواع من البيانات من سجلات المرضى، وهي البيانات الثابتة مثل عمر المريض وجنسه، والبيانات المتغيرة مع الزمن مثل نتائج التحاليل، والملاحظات التي يضيفها الأطباء إلى السجل.
لتحليل هذه المعلومات، طوّر الباحثون نظاماً يتضمن ثلاثة برامج ترميز منفصلة لمعالجة الأنواع الثلاثة من البيانات. وبعد معالجة البيانات في كل برنامج ترميز، يجري دمجها والتنبؤ باحتمال حدوث مقاومة من الميكروبات للمضادات الحيوية.
يقول يعقوب إن هذا الترتيب يشبه طريقة تعامل الإنسان مع المشكلة: “فالطبيب يراجع البيانات بأنواعها المختلفة ثم يحاول استخلاص نتيجة منها. والبروتوكول الذي يتبعه الأطباء مثالي على الأرجح، ولكن المشكلة تكمن في محدودية كمية البيانات التي يمكن للبشر تحليلها في لحظة زمنية معينة.”
الدمج والتنبؤ
استخدم العلماء مجموعة بيانات ضخمة اسمها “MIMIC-IV” تحتوي بيانات سجلات صحية إلكترونية مفصلة تم جمعها على مدى عشر سنوات من وحدات العناية المركزة في مستشفى كبير في بوسطن. وطبّق الفريق طريقة معالجة أولية للبيانات اسمها FIDDLE تمهيداً لتحليلها بواسطة برامج الترميز.
واستخدم الفريق برنامج ترميز خطي لترميز البيانات الثابتة. كما استخدم نموذجاً لغوياً اسمه ClinicalBERT، يقوم على نموذج “تمثيلات الترميز الثنائية الاتجاه من المحولات” (BERT) الذي أصدرته شركة “جوجل”، لترميز ملاحظات الأطباء. واستُخدمت ثلاث طرق مختلفة لترميز البيانات المتغيرة مع الزمن، وهي الذاكرة القصيرة المدى المطولة، والمحول النجمي، وبرنامج ترميز وتحويل. ثم أجريت مقارنة شاملة بين الأساليب الثلاثة.
تم اختبار أربع آليات دمج، وهي دمج الانتباه، ودمج تينسر، وبوابة التكيف المتعددة الصيغ لنموذج تمثيلات الترميز الثنائية الاتجاه من المحولات (MAGBERT)، ومُحسّن المعلومات المتعدد الصيغ (MMIM)، لاستكشاف كيفية تحسين أداء النظام.
اختبر الباحثون قدرة النظام على التنبؤ بمقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية بناءً على تاريخ المريض بالنسبة لمضاد حيوي معين هو جنتاميسين وكائن محدد مسبب للمرض هو الزائفة الزنجارية.
أظهرت آلية الدمج باستخدام مُحسّن المعلومات المتعدد الصيغ أعلى دقة في التنبؤ بمقاومة الجنتاميسين بنسبة 76% على مقياس المساحة تحت منحنى دقة الأداء. كما تفوقت الآلية نفسها على الآليات الأخرى في حالة الزائفة الزنجارية مسجلة نسبة 69% على مقياس المساحة تحت منحنى دقة الأداء.
دعوة لمزيد من البحوث
ما زالت المعركة ضد مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية في بدايتها. ولكن الابتكارات المماثلة لما طورته شهد حردان ومحمد يعقوب وزملاؤهما تقدم أملاً واعداً بمستقبل يسهم فيه تعلم الآلة في اتخاذ القرارات الطبية. وإحدى الفوائد الإضافية لهذا الابتكار هي إمكانية دمج النظام بسلاسة في أنظمة المستشفيات الحالية لأنه يستخدم بيانات تجمعها الكثير من المستشفيات.
ويختم يعقوب كلامه بالقول: “مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية مشكلة عسيرة، وما زلنا في بداية الطريق نحو حلها. لا توجد بحوث كثيرة في هذا المجال، ونحن نعتبر هذه المبادرة بمثابة دعوة للباحثين للمساهمة في مواجهة هذا التهديد الخطير الذي تمثله مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية”.
بينما تحتفل الإمارات بشهر الابتكار تحت شعار "الإمارات تبتكر 2025"، يحاول تيموثي بالدوين – عميد جامعة محمد.....
الدكتور فخري كراي يسهم في تطوير نموذج إحصائي جديد قد يساعد في تحسين مستويات الاستدامة وجودة النظم.....
باحثون من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يطورون مجموعة بيانات معيارية جديدة لتقييم أداء النماذج اللغوية.....