في عالم تتدافع فيه وتَتسارع وتيرة تطور التكنولوجيات المتقدمة من بنى تحتية متقدمة وأجهزة شخصية، أصبح وجود التقنية واقعاً ملموساً وجزءاً لا يتجزأ من حياتنا وواقعنا اليومي. وتكمن هنا أهمية فهمِ طبيعة العلاقة والتفاعل بين الإنسان والتقنيات أو التكنولوجيا وبناها التحتية – خاصة في ظل تعدد الابتكارات الجديدة وتنوعها في عصر الذكاء الاصطناعي.
ولتحقيق هدف فهم هذه العلاقة، تُؤْمِن إليزابيث تشرشل، أستاذة ورئيسة قسم التفاعل بين الإنسان والحاسوب في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، بأن فهم طبيعة هذه العلاقة في متناولنا إذا ما تبنينا الاستعانة بعلوم متأصلة وراسخة لها علاقة بمجالات علم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وما له صلة بالإنسان والهندسة، إلى جانب علوم الحاسوب.
لقد ساعدتنا العلوم الاجتماعية في فهم الناس والثقافات، بينما ساعدتنا مجالات الهندسة التي تُولي اهتماماً خاصاً لاحتياجات الإنسان وهندسة بيئة العمل في تحسين تصميم الأدوات لتتناسب مع الاستخدام البشري. ويندرج تخصص التفاعل بين الإنسان والحاسوب – الذي يُعَدُّ مبحثاً حديثاً نوعاً ما – ضمن هذا المنطق، حيث إنه يهدف على غرار المجالين المذكورَين إلى الإجابة على تساؤل لماذا الإنسان بحاجة إلى التقنية واستخدام التكنولوجيات التفاعلية. ويمكننا، بناءً على الإجابة على سؤال لماذا، تحديد ما ينبغي تصميمه وبناؤه، وكيفية جعل ما سنطوره قابلاً للاستخدام، ومفيداً، وممتعاً، بل وربما سحرياً. وينطبق هذا بشكل خاص على الـ “ذكاء” الذي يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي.
رائدة بخبرة طويلة
لقد قضت البروفيسورة والدكتورة إليزابيث تشرشل عقوداً عدة في هذا المجال البحثي، وسعت منذ فترة دراستها الجامعية في علم النفس إلى فهم الكيفية التي وفقها يقوم الإنسان بمعالجة المعلومات، وكيف يتعلم، وكيف يبدع، وكيف يتفاعل مع التكنولوجيا، وفهم كيفية تفاعله مع الآخرين من خلالها.
وتعتبر تشرشل، التي كان دائماً اهتمامها منصباً على تجربة الإنسان، أن التكنولوجيا أو التقنية تنطوي على إمكانيات هائلة يمكنها أن تسهم في تعزيز قدراته التي يمكنه أن يسخر بها التكنولوجيا بطرق غير مسبوقة – وتوضح الدكتورة، في هذا الصدد، بإن:
“مبحث التفاعل بين الإنسان والحاسوب يُعد مجالاً بحثياً حيوياً هدفه مساعدة الإنسان على إدراك إمكاناته وتوسيع آفاق تجربته. كما أنه مجال يحاول التأسيس لتكنولوجيا تخدم الإنسان من خلال محاولة الإجابة على الكيفية التي يمكننا بها تعزيز إنتاجية الأفراد بطرق ذات مغزى بالنسبة لهم؟ وكيف يمكننا تطوير تقنيات لا تعيقهم، بل تساعدهم وتدعمهم؟ وكيف يمكننا أن نعزز التواصل والتعاون الفعّال بينهم؟ – هدف مبحث التفاعل بين الإنسان والحاسوب هو إرساء أسس علاقة مفيدة، ومنتجة، ومرضية، وممتعة بين الإنسان والتكنولوجيا ومن خلالها بين الأفراد كذلك”.
“وفي الوقت الذي أسعى فيه، تضيف تشرشل، إلى التركيز على الجوانب الإيجابية في هذا المبحث، من الضروري أيضاً أن نفهم دوافع ’الجهات غير المسؤولة‘ – التي تسعى لتوظيف التكنولوجيا من أجل استغلال الناس. ويدرس العديد من الباحثين في مجال التفاعل بين الإنسان والحاسوب هذا الموضوع بالتركيز على فهم هذه السلوكيات، وتوقعها، وتطوير حلول تضمن السلامة من الضرر الذي قد تتسبب فيه هذه الجهات”.
تصميم التجربة
مع تنامي استخدام الأفراد لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وإقبالهم عليها – على غرار ما يلاقيه كل من ChatGPT وMidjourney من شعبية واسعة – فإن الإجابة على الأسئلة والاعتبارات الآنفة الذكر، أصبحت أكثر من أي وقت مضى أمراً مُلِحاً بالنسبة للأكاديميين والمهنيين على حد سواء.
وتعد إليزابيث تشرشل – في هذا الصدد – رائدة، إذ تدرك أهمية تصميم وتطوير التجارب التي يخوضها الإنسان عند استخدامه للتكنولوجيا على نحو مدروس، وذلك ليس فقط لتلبية احتياجاته بوصفه مستخدماً، بل أيضاً للاستجابة لاحتياجات أولئك الذين يقفون وراء صنع تلك التجارب الرائعة.
وتوضح تشرشل أن: “الأمر لا يختلف كثيراً عندما يتعلق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي”، مشيرةً إلى ثلاثة جوانب رئيسة متصلة بتصميم تجارب ذكاء اصطناعي جديدة ترتبط بـ:
وعن النقطة الأولى توضح تشرشل قائلة: “نحن بحاجة، عند تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، إلى النظر في إمكانات أي خوارزمية أو مقاربة. كما أننا بحاجة إلى النظر في الكيفية التي يمكننا من خلالها تحقيق قيمة مستدامة للإنسان وتفادي الأضرار المحتملة”.
أما عن النقطة الثانية فتقول شارحة: “يجب، عند الحديث عن التصميم باستخدام الذكاء الاصطناعي، أن ندرك أنه مادة طيِّعة، تتيح لمستخدمها ابتكار أدوات ذات قيمة عالية انطلاقاً من نظم الملاحة والمساعدين الشخصيين وصولا إلى أدوات الإبداع والإنتاجية، ومنصات اتخاذ القرار والتجارب الترفيهية.. ما يثير حماسي خاصة هو إمكانياتها في مجال الرعاية الصحية، وإمكانية إسهامها في تعزيز التواصل بين الثقافات من خلال تعزيز تطوير أدوات الترجمة”.
أما فيما يخص النقطة الثالثة فتقول: “يمكننا، عند تطوير الذكاء الاصطناعي بما يخدمه في حد ذاته، التفكير في كيفية بناء واجهات تشغيل وأدوات أفضل للمستخدمين حتى يتمكن هؤلاء من فهم ما يسهم به الذكاء الاصطناعي بشكل أفضل، بهدف تحقيق المزيد من الشفافية، وتحقيق تعاون حقيقي بين الإنسان والنظم القائمة على الذكاء الاصطناعي”.
مسارٌ متميزٌ
يذكر أن تشرشل بدأت رحلتها في مجال الذكاء الاصطناعي والنمذجة خلال دراستها الجامعية في ثمانينيات القرن الماضي، ومن ثم حصلت على درجة الماجستير في الذكاء الاصطناعي – الذي كان يُعرف حينئذ بـ “الأنظمة القائمة على المعرفة” – من جامعة ساسكس في المملكة المتحدة، حيث كانت أطروحة الماجستير التي قدمتها حول موضوع “تطوير نظام تعليمي ذكي تكيفي لتعليم مفاهيم البرمجة المعقدة”. كما حصلت إليزابيث على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج في “نمذجة المستخدمين” وذلك استناداً إلى الكيفية التي يعتمد عليها الإنسان للتفكير وحل المشكلات.
بعد انتقالها أواخر تسعينيات القرن الماضي إلى قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وظفت تشرشل العلوم الاجتماعية، وعلوم الحاسوب، والهندسة، والبيانات لتحويل أفكارها البحثية إلى نماذج أولية ومنتجات. وأسست فرقاً من الباحثين والمهندسين في بعض من شركات التكنولوجية الرائدة عالمياً، وطورت تطبيقات وخدمات مبتكرة للمستخدمين؛ فعلى سبيل المثال، في مركز أبحاث فوجي زيروكس في بالو ألتو (FXPAL)، أنشأت فريقاً يُسمى مجموعة الحوسبة الاجتماعية.
وعن هذه الفترة من حياتها المهنية تتذكر تشرشل قائلة: “أحد أول المنتجات التي شاركت في تطويرها وإطلاقها كان شاشة تفاعلية تحت اسم Collaboposter تستخدم في الأماكن العامة، تم تطويرها استنادا إلى بحثنا حول كيفية تحسين تقنيات التواصل في سياقات اجتماعية – بعيداً عن الاعتماد على نموذج الحاسوب الشخصي، والتركيز بدلاً من ذلك على الحوسبة المجتمعية التفاعلية في الأماكن العامة.”
لاحقاً، لدى شركة Yahoo!، أسست الدكتورة ووجهت البحث في مختبرات Yahoo Labs! للإنترنت، حيث قامت مرة أخرى بنمذجة وإطلاق عدة منتجات لوسائل التواصل الاجتماعي. ثم انتقلت – بعد تجربتها هاته – للعمل لدى شركة eBay بوصفها مديرة لقسم التفاعل بين الإنسان والحاسوب في مختبرات أبحاث الشركة نفسها، حيث طورت عدداً من الابتكارات خاصة باقتراحات وتوصيات التسوق.
وإلى جانب تجاربها هاته، بصمت تشرشل بتجربتها كمدير أول لدى شركة جوجل على نقطة تحول في مشوارها المهني، حيث بدأت تهتم بتطوير أدوات إبداعية تهدف إلى تحسين تجارب المستخدمين عند استعمالهم لأجهزتهم الشخصية مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية من خلال اعتمادها مقاربة التركيز على الإنسان واحتياجاته خلال عملية التصميم أو تطوير أي منتج.
وعن تجربة عملها لدى شركة في “جوجل” تحدثت: “لم أعمل على منتجات موجهة للمستخدمين، مثل أدوات البحث أو تصفح الإنترنت، بل عملت على تطوير أدوات للإنتاجية خاصة بالمصممين والمطورين. لقد كان تطوير هذا النوع من الأدوات غايتي وحافزا لي دفعني للانضمام إلى فريق عمل شركة ’جوجل‘، لأنني كنت أرغب في تطوير أدوات لهذه الفئة من المستخدمين تتميز بجودتها وسهولة استخدامها”.
ومن بين المشاريع الأخرى التي عملت عليها البروفيسورة تشرشل وفريق عملها خلال فترة عملها لدى “جوجل” نذكر مجموعة من أدوات تطوير البرمجيات مفتوحة المصدر، فلاتر (Flutter)؛ ومنظومة جوجل للتصميم، وMaterial Design الذي يُعرف الآن بمنصة جوجل للتصميم (Google Design Platform)، ونظام التشغيل Fuchsia من الجيل الجديد.
وعلاقة بالمتخصصين الذين يقفون وراء تصميم تجارب المستخدمين تعتقد تشرشل: “أنه إذا ما وفرنا للمصممين والمطورين أدوات أفضل، وقدمنا لهم ما هم بحاجة إليه لإنتاج منتجات رائعة، فإننا نمنحهم – في الوقت نفسه – المساحة ليكونوا أكثر إبداعاً ونعطيهم مساحة أكبر من الوقت للتفكير فيما سيطورونه ولمن سيطورون. وسنمكنهم أيضاً من التركيز على الآثار والنتائج المحتملة لما سيطورونه”.
“فعلى سبيل المثال – تضيف – إذا تمكنا من دمج فكرة احتياجات المستخدم وسهولة استعمال منتج ما منذ المراحل الأولى للتطوير وعدم اعتبارها مجرد فكرة هامشية تأتي فقط في أعقاب الانتهاء من تطوير منتج ما، فعندئذ سيكون المطورون قادرون على تطوير منتجات متكاملة يستفيد منها فئة عريضة من المستخدمين، ما سيجعل منها أمراً محوريا وأساسيا”.
“وإذا كان بإمكاننا تزويد المطورين بأدوات تساعدهم في إنتاج البنية التحتية بطريقة أسهل، فإن مساحة إبداعهم الشخصية تنفتح وسيكون لديهم المزيد من الوقت للتفكير فيما يريدون أن تقوم به فعلا الأدوات التي سيقومون بتطويرها، والكيفية أو الصورة التي يجب أن تكون عليها تجربة المستخدم”.
خدمة للإنسان
أساس كل هذا العمل هو حب إليزابيث واهتمامها الكبير بالإنسان، والتزامها بتطوير تجارب تفاعل إيجابية بينه وبين التكنولوجيا. ويشكل هذا الدافع المحور الرئيس الذي كان وما يزال يحرك أبحاثها ومسيرتها المهنية، حيث تسعى دائماً وباستمرار لإيجاد حلول أفضل، وتقول:
“أحب فهم الناس، وأعتقد أن كل خطوة في مسيرتي كانت مدفوعة برغبة أكبر في معرفة كيف يتصرف الناس ويتفاعلون.” وتضيف مازحة: “وصفني بعضهم بأنني ديفيد أتينبارا“ في إشارة إلى تأثيرها البارز في مجال تصميم التكنولوجيا.
ورغم أن العديد من الفرص التي أتيحت لها كانت محض صدفة، تؤكد تشرتشل أنها دائماً ما اختارت أو صنعت فرصا تركز فيها ومن خلالها على فهم العلاقة بين الناس والتكنولوجيا. ولا تعتبر تشرشل أن الموجة الحالية من تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) والنماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) تشكل استثناءً، حيث تحمل إمكانيات وتحديات تحتاج بدورها إلى فهم عميق لطبيعة علاقاتنا معها.
وترى تشرشل أن رغم ما ينطوي عليه الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الأخرى من جوانب اجتماعية وفنية يجب أن يأخذها الباحثون والمطورون في عين الاعتبار، إلا أن عملية تطوير التكنولوجيا غالبا ما تركز على الجوانب “التقنية”، مما يؤدي إلى إغفال الاعتبارات المرتبطة “بالإنسان” واحتياجاته مما يسهم في ظهور نتائج سلبية.
وتوضح أن التداعيات السلبية للتكنولوجيا هي نتيجة لعدم دراسة تأثيراتها الاجتماعية المحتملة بشكل كافٍ. وتضيف أن: “التحدي الذي نواجهه هو محاولة جعل الناس يدركون أن أي تقنية تم تطويرها وإطلاقها لها تأثيرات اجتماعية، فضلا عن كونها إنجازا.”
وعلى مستوى آخر، تشير تشرشل إلى أن سبب التحاقها بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي هو ليس فقط قناعة إريك زينغ – رئيس الجامعة – بأهمية الاستثمار في تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بل كذلك تركيزه على أهمية الاعتبارات المرتبطة بالإنسان وضرورة التفكير فيها بجدية وفي تأثير تطوير الذكاء الاصطناعي بمختلف أشكاله على الإنسان. و”يعزز هذا التوجه – تقول – قدرتنا على القيام بأبحاث وابتكارات متميزة تخدم المجتمع والذكاء الاصطناعي”.
جانب آخر من الجوانب التي جعلت من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي الوجهة التالية للدكتورة إليزابيث تشرشل، هو ثقافتها التي تعتقد بأنها ضرورية لتحقيق هذه الرؤية.
وتؤكد تشرشل على أهمية هذه الثقافة في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وأهميتها في تعزيز روح الابتكار، حيث تسعى الدكتورة إلى غرس الفضول والتواضع في نفوس الطلاب، بدلاً من اليقين والغرور. “نريد من الطلاب أن يمتلكوا عقلية المبتدئين وأن يشعروا بالراحة في طرح الأسئلة الصعبة.”
في ختام حديثها، تشدد الدكتورة إليزابيث تشرشل على دور جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي الرائد في الدفع بعجلة الابتكار والتكنولوجيا، مؤكدةً على التزامها بضرورة العمل على تطوير تكنولوجيات ذكاء اصطناعي مسؤولة: “تسعى الجامعة إلى تمكين الطلاب والشركات والحكومات من تحقيق تقدم إيجابي من خلال أبحاث تسعى لحل التحديات الملحة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم والمناخ.”
وبكل حماس، تختم تشرشل: “أنا متشرفة، ومتحمسة، وملهمة لأن أكون جزءًا من هذه الجهود البحثية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وأتطلع إلى إحداث تغيير حقيقي في العالم.”