عندما كان سالم المرّي في طفولته يشاهد والده المخترع يعمل على مشاريعه المبتكرة في مختبره الصغير، كان يتساءل عما إذا كان يوما ما سيتمكن من تحقيق إنجازات تقترب من إنجازات والده.
وعن ذكريات طفولته يقول سالم: “نشأت وأنا أرى والدي يصنع أشياء كانت بالنسبة لزمنها تُعدّ متقدمة ومتطورة جداً.. فقد طوّر – مثلاً – في السبعينيات نظام حضور للشرطة شبيه بالنظام الحاسوبي، وصَنع في التسعينيات توربين رياح يمكن تركيبه من دون براغٍ ولا يشكّل خطراً على الطيور.. كما ابتكر نظاماً حاسوبياً يمكّن الأشخاص مبتوري الأطراف من استخدامه – كان ولدي دائم الابتكار والتجريب.. والوصول إلى مستوى يقترب من إنجازاته، شكل بالنسبة لي تحدياً شخصياً”.
بعد أن أصبح المرّي أول خريج يحصل على درجة الدكتوراه من الجامعة، يمكن القول بثقة إنه لم يصل إلى مستوى قريب من إنجازات والده فحسب، بل تجاوزها أيضاً؛ فالبحث الذي أنجزه لنيل درجة الدكتوراه خلال فترة إعارته البحثية من شرطة دبي يتمحور حول “تحديد الحالات المشبوهة في مقاطع الفيديو” ويمكن أن “يغيّر أسلوب العمل الشرطي” ويساعد أجهزة الشرطة في جميع أنحاء الدولة.
وعن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه التي أعدها تحت إشراف د. كارثيك نانداكومار، الأستاذ المساعد في قسم الرؤية الحاسوبية بالجامعة – يقول المري: “تحديد الأمور التي تعتريها شبهة في مقاطع الفيديو قد يساعد أجهزة الشرطة على التركيز على الحيثيات المهمة واستبعاد غيرها؛ فقراءة تعابير الوجه البشري أمر مهم وأي شخص يمكنه ملاحظة التعابير المريبة أو قراءة لوحة مَركبة ما – وهذا أمر بسيط. لكن التحدي الحقيقي يكمن في رصد تلك التفاصيل الصغيرة غير الاعتيادية كوقوف شخص أمام أمين صندوق وقوله له ’أعطني المال‘ بنبرة تبدو ودية. الكاميرا العادية، في مثل هذه الحالة، لن ترصد ما يحدث وسترى فقط أمين الصندوق وهو يسلم المال”.
وأوضح المري أن النظام الجديد يستطيع القيام بهذه المهمة قائلا: “يتميز النظام الجديد بقدرته على تنفيذ هذه المهمة بكفاءة عالية، حيث يُمكنه كشف الحالات المشبوهة وتحليل التفاصيل الدقيقة، وتحديد أي أنماط غير اعتيادية سواءً أكانت نادرة الحدوث أو غير مسبوقة – بل إنه قادر على رصد السلوكيات غير الطبيعية وإخطار الجهات الأمنية”.
مضيفا: “يمكن أيضاً توسيع نطاق قدرات هذا النظام لتشمل مجالات أخرى مثل الحوادث والطوارئ، ومواجهة المخاطر التي تهدد السلامة العامة، والتنبؤ بالكوارث الطبيعية، والرصد المبكر للمخاطر البيئية، وغيرها مما يسهم بشكل فعال في حماية الأرواح ومنع وقوع الجرائم – ورغم أن أداء الشرطة ممتاز، فقد تقدم أنظمة تحديد الحالات المشبوهة في مقاطع الفيديو عوناً كبيراً”.
ربما كان والد سالم المري حافزاً له لبدء مشواره لنيل درجة الدكتوراه، لكنّ الدافع الحقيقي وراء إصراره كان شغفه بالتطور التكنولوجي وخوفه من أن يتخلف عن هذا الركب السريع؛ فبعد حصوله على درجة البكالوريوس في الهندسة الإلكترونية من كليات التقنية العليا في دبي وانضمامه عام 2016 إلى شرطة الإمارة – التي أسهم فيها بتطوير مشاريع تكنولوجية متقدمة مثل الطائرات المسيّرة والروبوتات الخَدَمِية مُستخدِماً أحدث التقنيات لمواجهة التحديات الأمنية – ورغم كل هذه الإسهامات التي أسهم بها المرّي في تعزيز نظم الشرطة الذكية، ظل يراوده هاجس التسارع التقني غير المسبوق الذي تشهده دولة الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي، وأدرك أن عليه أن يظل في صدارة هذا التطور، وإلا فإن الفجوة بينه وبين هذا الركب ستتسع أكثر فأكثر.
وقد دفعه هذا الهاجس إلى مواصلة دراسته العليا، فالتحق بـ “معهد روتشستر للتكنولوجيا” لنيل درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية، وهناك خاض المري أول تجربة له في دراسة الذكاء الاصطناعي.
وعن هذه التجربة يقول المرّي: “وجدتُ نفسي فجأةً في سباق مع الزمن، وشعرت أن التطور يتسارع من حولي بينما أحاول اللحاق به.. لاحظتُ كيف يتحول العالم – والإمارات تحديداً – بوتيرة مذهلة نحو عصر الذكاء الاصطناعي – بل وحتى في مكان عملي، لم يعد قسمنا مجرد وحدة للخدمات الذكية، بل أصبح مركزاً متكاملاً يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في كل شيء”.
“أدركتُ أن عليّ مواكبة هذا التحول، فقررت أن أجعله محور دراستي العليا، واخترت التركيز على تقنيات التعرف على الوجوه وتحليل المشاعر، كخطوة عملية لفهم هذا العالم الجديد. وبعد حصولي على الماجستير عام 2019، عدت إلى عملي، لكنني شعرت أن التحدي الحقيقي لم ينتهِ بعد، وتواصلت لديّ قناعة بأنني بحاجة إلى فرص أكثر تحدّياً، تسمح لي ليس فقط بمواكبة التطور، بل بالمشاركة الفاعلة في تشكيل مستقبل هذه التقنية”.
برزت في هذه المرحلة جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كخيار استثنائي للمري، خاصةً وأنها كانت في مرحلة التأسيس الأولى وتبحث عن طلابها الأوائل. وقد لامست رؤية الجامعة ورسالتها شغف المري، فلم يتردد في الانضمام إليها.
ويُعلق المري على هذه الخطوة قائلاً: “كنت قد قطعت شوطاً كبيراً في مسيرتي المهنية؛ حيث درست تخصص الإلكترونيات، وأتقنت البرمجة، واكتسبت خبرة عملية في مجال الروبوتات، وبدأت أخوض غمار الذكاء الاصطناعي. لكنني كنت أبحث عن فرصة للتعمق في هذا المجال ضمن فريق أكاديمي عالمي المستوى. لذا، عندما ظهرت فرصة الالتحاق ببرنامج الرؤية الحاسوبية، لم أتردد لحظة في التقدّم له”.
قبل انطلاق مسيرة رحلته الجامعية، كُرِّم المرّي ضمن “برنامج سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك للتميّز والذكاء المجتمعي”، حيث تمّ اختياره كواحد من أبرز العلماء الواعدين في دولة الإمارات. كما حظي بتشريفٍ فريدٍ عندما وشحه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة – الذي كان آنذاك ولي عهد أبوظبي – بوسام التميّز للأفراد، وذلك تقديراً له عن فوزه بالمركز الأول في فئة “العلوم والتكنولوجيا المستقبلية”.
لكن نقطة التحول الحقيقية جاءت مع التحاقه بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، حيث يقول عن هذه التجربة: “هنا تعلمت معنى التواضع الحقيقي، حيث إنه على الرغم من سجلي الحافل بالإنجازات والفوز بمسابقات مرموقة، وجدت نفسي أمام تحدٍ جديد تماماً وأدركت أن الإنجازات السابقة كانت مجرد بداية الطريق نحو التميز”.
ويضيف المري: “ما يميز جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ليس فقط المستوى الأكاديمي غير المسبوق، بل قيمة وتواضع أعضاء الهيئة التدريسية – وبصراحة، يصعب العثور على مثل هذا الكم من الخبرات والتميز في أي مكان آخر في العالم”.
أما النقلة النوعية والأبرز بالنسبة لسالم المري والدرس الأهم الذي سيرافقه بعد تجربته الجامعية، فهو إدراكه لقيمة البحث العلمي الجاد.
ويوضح المري: ” لم أكن في السابق أدرك القيمة الحقيقية للأبحاث الأكاديمية ودورها المحوري. أما اليوم، فقد أصبحت أرى كيف أن المعرفة الرصينة يمكن أن تُحدث فرقاً في حياتي وفي العالم من حولي. وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي لم تفتح أمامي آفاقاً جديدة فحسب، بل علمتني كيف أترجم التميز إلى إنجازات ملموسة، وهو ما أعتبره من أعظم المكاسب”.
وفيما يتطلّع إلى المستقبل، يؤكد المري عزمه على التركيز على تعزيز معارفه وخبراته في هذا المجال مشيراً إلى أن الجامعة قد منحته، حقاً، فرصة العمل على مشروع مبتكر بمعنى الكلمة، ويطمح إلى مزيد من التميز. كما أنه يسعى ليكون رائداً في مجال عمله ويقدم أبحاثاً تسهم في صنع تغيير حقيقي خاصة كمواطن إماراتي؛ وفي هذا فهو يحذو حذو وطنه الإمارات وكيف تحولت من دولة صغيرة إلى قصة نجاح عالمية، ويستلهم من هذه القصة الرغبة في أن يكون جزءاً من مسيرة هذا التميز. والتخلف عن ركب التطور بالنسبة له لم يكن خياراً مطروحاً ويقول – “الحمد لله أن جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي منحتني الأدوات لأكون في قلب هذا التحول، وأساهم في ابتكار حلول تخدم بلدي”.
يذكر أن المري هو من بين 20 مواطن تخرجوا ضمن دفعة عام 2025 التي تضمن 11 مواطناً و9 مواطنات كلهم تحدوهم الرغبة والطموح في أن يصبحوا كواد وطنية قيادية في مجال الذكاء الاصطناعي.