الملاحظ، غالباً، أن أكثر الكائنات خطورة في العالم ليست تلك المخيفة أو القوية، مثل القرش أو النمر أو الكوبرا، بل هي تلك البعوضة الصغيرة المنتشرة في كل مكان.
سنوياً، يموت مئات الآلاف من الأشخاص بسبب الأمراض التي ينقلها البعوض، وتعد الملاريا الأكثر فتكاً من بين هذه الأمراض. وتشير تقديرات “منظمة الصحة العالمية” إلى أن ما يقرب من 250 مليون شخص يصابون بالملاريا كل عام، والتي يتسبب فيها طُفيل ينتشر عن طريق لدغات البعوض، حيث إن أكثر من 600 ألف شخص فارقوا الحياة بسبب هذا المرض خلال سنة 2021.
وتتمثل إحدى طرق الحد من تأثير الملاريا في فهم البعوض والبيئات التي تساعد على انتشاره بشكل أفضل؛ فالملاحظ أن هذه الحشرات تتكاثر أعدادها وتتزايد في البيئات الحارة والرطبة. كما أن الأمراض التي ينقلها البعوض مثل الملاريا تنتشر على نطاق واسع في المناطق القريبة من خط الاستواء، مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأجزاء من آسيا والأميركتين.
وبالتزامن مع ارتفاع درجات حرارة الأرض وتزايد معدلات الرطوبة بسبب التغيرات المناخية في العالم، فمن المتوقع أن يصبح تفشي فيروس الملاريا أكثر شراسة، ويستمر لفترة أطول، ويظهر في مناطق لم تعرف ظهوره من قبل الأمر الذي قد يعرض المزيد من السكان لخطر الإصابة بهذا الفيروس.
ويعمل فريق من الباحثين في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تحت إشراف البروفيسور عبد المطلب الصِّديق، أستاذ الرؤية الحاسوبية، على تطوير تطبيقات تعتمد الذكاء الاصطناعي كوسيلة لمساعدة الأطباء ومسؤولي قطاع الصحة العامة في إندونيسيا على الحد من تأثير فيروس الملاريا على سكان البلاد البالغ عددهم 270 مليون نسمة.
وتقوم التطبيقات التي يعمل البروفيسور وفريقه على تطويرها بدمج بيانات المستشعرات، وهي عملية يتم من خلالها تجميع البيانات انطلاقاً من مجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار بهدف توليد صورة افتراضية للبيئة تكون عبارة عن “نسخة رقمية”. وتُمكِّن هذه المقاربة من توفير توقعات دقيقة عن حالة الطقس، كما تتيح صورة شبه لحظية عن البيئة، مما يساعد في تزويد المسؤولين بمعلومات مفصلة حول المكان الذي قد يحدث فيه تفشٍ محتمل للملاريا.
وبهدف تحديد السمات المتكررة التي تسهم في تفشي فيروس الملاريا، تخضع البيانات المجمعة من المستشعرات للمعالجة اعتماداً على تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدوات التحليل التجميعي. يشار إلى أن استخدام هذه التطبيقات في بلدان أخرى، عرضة لخطر انتشار الملاريا، أمرٌ ممكن في المستقبل.
وجدير بالذكر أن هذا المشروع يحظى بدعم برنامج “صندوق بلوغ الميل الأخير”، الذي يدير محفظة مبادرات عالمية في قطاع الصحة الممولة بتبرعات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حَفِظَه الله. كما يشارك في المشروع من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كل من البروفيسور محمد يعقوب، الأستاذ المشارك في قسم الرؤية الحاسوبية؛ والسيد حسني غديرا، مدير إدارة الخدمات البحثية.
قوة التوقعات الاستباقية
عندما يتعلق الأمر بالحد من تداعيات فيروس الملاريا وآثاره على السكان، فإن تدابير الوقاية والعلاج تشكل أكثر المقاربات فاعلية، حيث تُمكن المسؤولين – اعتماداً على التوقعات الاستباقية – من إخطار السكان المعرضين للخطر، وتنفيذ تدابير إضافية لمكافحة البعوض، وتزويد العيادات بالمواد اللازمة لمكافحة أي تفشٍ للمرض. وسيكون المسؤولون في قطاع الصحة، بهذه التوقعات، قادرون على معرفة مكان تفشي المرض قبل حدوثه، ويمكنهم إنقاذ العديد من الأرواح.
ومن أجل توفير هذه التقنية وجعلها متاحة للاستخدام، يعمل البروفسور الصِّديق وفريقه على تطوير خوارزمية لتعلم الآلة تقوم بتحليل بيانات الحالة الجوية والوبائية والجغرافية وغيرها من البيانات الأخرى، اعتماداً على منظومة من أجهزة الاستشعار عن بعد التي تقوم بتجميع المعلومات من جميع أنحاء البلاد - بما في ذلك القرى النائية - وتحلل بيانات المستشعرات بدمجها، لبناء صورة متكاملة ودقيقة للأماكن التي قد تنشأ فيها بؤر لتفشي الملاريا.
ويوضح البروفيسور الصِّديق أن: 'من أهم العوامل المرتبطة بتفشي الملاريا، هناك درجة الحرارة والرطوبة والأمطار، غير أن الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو عليه، لأن العلاقة السببية بين هذه العناصر هي غير مباشرة؛ فالمزيد من التساقطات المطرية أو درجات الحرارة المرتفعة لا تؤدي دائماً إلى زيادة من حالات الإصابة بالملاريا. قد يؤدي، على سبيل المثال، هطول الأمطار الغزيرة التي تتسبب في تصريف مياه الأمطار بسرعة إلى انخفاض خطر الإصابة بالملاريا مقارنة بزخات مطرية تخلف مياه راكدة أكثر يمكن للبعوض أن يتكاثر فيها.
ويتابع البروفيسور قائلاً: “إن ما يَطرحه توقع احتمالات تفشي الملاريا من تحديات مُرتبطة بجمع البيانات وتحليلها، يجعل من هذا الموضوع موضوعاً بحثياً مثيراً للاهتمام”.
تحسين التشخيص وتسريع عمليات الرعاية الصحية
تتوفر اليوم العديد من الاختبارات التي يمكن استخدامها لتشخيص الإصابة بفيروس الملاريا، ويُعد سحب عينة دم صغيرة من المريض وإضافة مواد خاصة عليها، ثم فحصها تحت المجهر إحدى هذه الطرق الأكثر دقة. كما يشكل التشخيص الدقيق لتحديد نوع الطفيلي مرحلة ضرورية لضمان فعالية العلاج.
ورغم بساطة الكشف عن الإصابة بالملاريا، فإن العديد من الأشخاص يصابون بها في المناطق النائية حيث الموارد محدودة، وفي القرى الصغيرة التي يُمكن ألا تتوافر فيها الأطقم الطبية المدربة والقادرة على قراءة نتائج اختبار الملاريا بالشَّكل الصحيح.
ولحل هذه المشكلة، يقوم البروفيسور الصِّديق وفريقه بتطوير تطبيق لتحليل الصور المجهرية وتحديد نوع العدوى ومرحلة تطور الإصابة بفيروس الملاريا. ويعتمد هذا التطبيق على مبادئ الرؤية الحاسوبية لتحديد الخصائص في الصور التي تشير إلى الإصابة بالملاريا.
وبالنظر إلى الاختلافات في نوع فيروس الملاريا في جنوب شرق آسيا عنه في أفريقيا، فإن مهمة التطبيق الذي يطوره البروفيسور وفريقه ليست بالسهلة عِلماً أن هذه الفوارق في الأنواع ينتج عنها اختلافات في كيفية ظهور أعراض المرض في الصور المجهرية. ويوضح الصِّديق هذا التحدي قائلاً إن: “مثل جميع التحديات التي تطرحها الرؤية الحاسوبية، فإننا بحاجة إلى ما يكفي من البيانات الجيدة لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي، وقد قمنا بتحديد مجموعات البيانات والصور المشروحة التي ستمكننا من تدريب هذه النماذج لتصبح قادرة على إنتاج توقعات مناسب”.
البرنامج أيضاً بحاجة إلى أن يكون فعالاً من حيث قدراته الحوسبية وكمية البيانات التي يستقبلها ويرسلها عبر الشبكة. “نريد أن يكون التطبيق قابلاً للاستخدام عبر أي نوع من أنواع الاتصالات المحمولة، خاصة في المناطق النائية مثل غابة بَابْوَا الوسطى في إندونيسيا”. كما يجب – يقول البروفيسور الصِّديق – أن يكون التطبيق ذو حجم صغير حتى يمكن استعماله على جهاز محمول.
واعتماداً على التطبيق، سيتم تحليل الصور وحوسبتها على الجهاز المحمول، وسيتم – عند اكتشاف حالة إصابة بالملاريا – مشاركة تلك المعلومات مع السلطات الصحية حتى تكون على علم بالحالات ويمكنها اتخاذ الخطوات والإجراءات المناسبة. كما يمكن استخدام البيانات التي يتم جمعها من خلال التطبيق لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي للتوقعات الذي يطوره الصِّديق وفريقه.
فكرة المشروع
بدأ فريق البروفيسور الصِّديق العمل على مشروع تطوير التطبيق في وقت سابق خلال هذا العام، وفعلاً قاموا بتطوير نسخة تطبيق للأجهزة المحمولة التي يمكنها كشف الإصابة بالملاريا من الصور. وفضلا عن هذا، فإن المشروع آخذ في التوسع خارج إندونيسيا، وفريق العمل يتعاون مع الأطباء في الهند لمعرفة الميزات أكثر قيمة للأطباء.
ويتطلع البروفيسور الصِّديق في غضون الأشهر القليلة المقبلة إلى توفير النسخة الكاملة الأولى من التطبيق لشركائه في إندونيسيا وإخضاع النظام للاختبارات الضرورية. وأشار البروفيسور، في هذا السياق، قائلا: “إن أهم الجوانب في عملنا هي تلك المتصلة باستخدام إمكانات الذكاء الاصطناعي لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح، وتوظِيفها لخدمة الإنسانية والمجتمع”.
يحتفي العالم في 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة الضاد في لفتَتٍ يقف فيها العالم.....
فريق بحثي من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وجامعة موناش يبحث في مدى قدرة النماذج اللغوية.....
اقرأ المزيدفريق بحثي من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يفوز بجائزة تقديرية عن دراسة بحثية تشجع الباحثين.....