لم يكن تشارلز داروين ليتخيّل أن ما جمعه من عينات نباتية خلال رحلته الاستكشافية الطويلة سيخضع للتحليل والأرشفة باستخدام الذكاء الاصطناعي بعد قرابة 300 عام. فملاحظاته المكتوبة بخط اليد والنباتات التي جمعها محفوظة في حجرات خاصة في درجة حرارة ثابتة حول العالم، حيث يجري اليوم أرشفتها رقمياً وتدوين خصائصها الشكلية باستخدام نموذج ذكاء اصطناعي متعدد الوسائط قادر على معالجة كميات هائلة من النصوص والصور.
جمع داروين نحو ألف وخمسمائة نوع مختلف من النباتات، بعضها محفوظ اليوم في معشبة حدائق كيو الملكية في لندن، التي تُعد واحدة من أهم المجموعات النباتية في العالم، حيث تضم ما يقرب من سبعة ملايين عيّنة محفوظة، بعضها يعود إلى القرن الثامن عشر.
ويعمل كين ليندسي، أحد خريجي جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، على رقمنة هذه المجموعة الضخمة في كيو بهدف إتاحتها للباحثين والجمهور على حد سواء. وقد بدأ هذا الأمر بالنسبة له كفرصة تدريبية خلال سنة فراغ، ثم تحوّل إلى مشروع بحثي لنيل درجة الدكتوراة، بالشراكة مع حدائق كيو الملكية والحديقة النباتية الملكية في إدنبرة وجامعة لوفبرا. وهو يجمع من خلال هذا المشروع بين تدريبه التخصصي في مجال الذكاء الاصطناعي وشغفه بالبستنة.
حدائق كيو الملكية في لندن، إنجلترا.
يقول ليندسي إنه انضم إلى مشروع تجريبي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحويل كل عيّنة نباتية في المعشبة إلى بيانات قابلة للبحث في قاعدة بيانات رقمية: “كان لديهم مجموعة كبيرة من صور النباتات عالية الدقة والبيانات المكتوبة يدوياً، وكانوا يتساءلون عن إمكانية تسخير الذكاء الاصطناعي في أرشفة هذه البيانات. الجواب نعم، يمكن للذكاء الاصطناعي تسريع ذلك بمقدار مائة مرة وتخفيف عبء العمل عن كاهل الكثيرين، مما يجعل العملية أكثر كفاءة بدرجة كبيرة”.
وهو يوضح أن هذه الإمكانية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في علم النبات شكّلت الأساس لنموذج أولي: “هناك ارتباط جوهري بين علم الأحياء والذكاء الاصطناعي بسبب الشبكات العصبية. فكلاهما ينبع من أصول بيولوجية واحدة، وهي مجموعات من الخلايا المتصلة التي تنشط معاً”.
ويشير ليندسي إلى أن أحد أكبر التحديات التي واجهها فريق العمل هو التعرّف على الكتابات القديمة بخط اليد التي تعود لقرون سابقة، حيث يقول: 'يمكن لتكنولوجيا التعرّف على الحروف أن تقرأ بسهولة النصوص المكتوبة بخط أنيق. لكننا نتحدث هنا عن ملاحظات عمرها 300 أو 400 عام كتبها تشارلز داروين بنفسه عندما جمع عينات نباتية من جزر نائية وأرسلها إلى حدائق كيو الملكية'.
بعد ذلك، طوّر الفريق نموذجاً ثانياً لتحديد البيانات الحساسة وإخفائها، مثل مواقع الأنواع النباتية المهددة بالانقراض، وذلك لمنع إلحاق الضرر بها أو سرقتها من قبل العامة. وهنا اقترح ليندسي، الحاصل على درجة الماجستير في الرؤية الحاسوبية من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، تطوير النموذج بشكل أعمق لتحليل صور العينات النباتية بدقة واستخلاص بيانات خصائصها الشكلية. وهذا المقترح تحوّل إلى فرصة فريدة لنيل درجة الدكتوراه ممولة بالكامل من خلال برنامج 'تحالف التدريب في علوم البيئة الطبيعية بوسط إنجلترا'.
يتابع ليندسي قائلاً: “مشروع الدكتوراه الذي أعمل عليه يحمل عنوان “من البكسلات إلى الخصائص الشكلية”، ونحلل فيه عينات المعشبة باستخدام الرؤية الحاسوبية لفهم بنية النباتات وخصائصها من الصور، وذلك بهدف تطوير أداة ذكاء اصطناعي مفيدة يمكن استخدامها على نطاق واسع في قطاعات الأراضي مثل الزراعة، خاصة في ظل التغيّر المناخي”.
يهدف النموذج إلى رصد الخصائص الشكلية للنبات، مثل طول الساق، وحجم الأوراق ولونها، والبراعم، وغير ذلك، لتكوين سجل رقمي متكامل للخصائص الشكلية. وهذا العمل متوافق مع مشروع السمات البشرية، الذي يهدف إلى تحسين تشخيص الأمراض وتسريع اكتشاف الأدوية. أما بالنسبة للنباتات، فقد يسهم هذا العمل في تحديد البيئات المثلى للنمو، أو الكشف عن قيمتها الاقتصادية في مجالات مثل الطب أو صناعة الأقمشة.
يعود ليندسي في أصوله إلى بلدة هاوورث شمال إنجلترا، وهو ينسب الفضل في حبه للبستنة إلى جدته. ويضيف قائلاً: “كانت البستنة بالنسبة لي اهتماماً شخصياً اعتبرته دائماً منفصلاً عن تدريبي التخصصي. لكن آن الأوان لدمج الاثنين، خاصة في ظل التغير المناخي الذي يعيد تشكيل البيئات الطبيعية حول العالم. هناك أنواع من النباتات تواجه صعوبة في البقاء، بينما تنتشر أنواع دخيلة بوتيرة متسارعة”.
تحظى العينات النباتية المحفوظة في المعشبات اليوم باهتمام متزايد باعتبارها مفتاحاً محتملاً لمواجهة التغيّر المناخي، وقد أصبحت أبحاث ليندسي جزءاً من هذه الصورة الأكبر.
وجد ليندسي مجال تخصصه في دمج علم الأحياء وعلم النبات والرؤية الحاسوبية، وهو مجال يختلف تماماً عن رسالته في الماجستير، التي كانت تركز على إعادة بناء رؤوس بشرية ثلاثية الأبعاد باستخدام نماذج شبكية عصبية.
هذا المسار يعكس ما يراه ليندسي مفتاح النجاح لطلاب الذكاء الاصطناعي، وهو العثور على مجال التخصص المناسب، حيث يقول: “أصبح الكثير من مجالات الذكاء الاصطناعي مشبعاً بالباحثين. لكن إذا استطاع المرء تحديد مشكلة معينة لا يعمل عليها الكثيرون، فهنا تكمن فرصته لإحداث تأثير حقيقي”.
ويضيف قائلاً: “يتميز طلاب جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بمستوى عالٍ جداً. وإذا تمكن أيٌّ منهم من إيجاد مجال تخصصه، فبوسعه تحقيق تقدم كبير. أعتقد أن برنامج التدريب الداخلي في الجامعة بالغ الأهمية، فهو المكان الذي يمكن أن يكتشف فيه المرء تلك الفجوات، ويتعرف من خلاله على مشكلات واقعية في الصناعة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلها”.
قبل أن يبدأ ليندسي برنامج الدكتوراه في أكتوبر، قرر قضاء بعض الوقت في السفر، وهو أمر لطالما اعتبره ذا قيمة كبيرة. وبصفته الطالب البريطاني الوحيد في دفعة 2024 بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، يقول إن تجربته في أبوظبي منحته “قدراً كبيراً من الثقة بالنفس” من خلال “معرفة أنه قادر على الانتقال إلى بلد أو ثقافة جديدة كلياً والتكيف مع الوضع”.
وبعد التخرج، رسّخ ليندسي هذا الإحساس من خلال قضاء فصل دراسي في الصين، في جامعة شيان جياوتونغ-ليفربول، التي تقع غرب شنغهاي وتبعد عنها نحو ساعة بالسيارة، حيث سنحت له فرصة استكشاف اللغة والثقافة الصينيتين. وهو يتحدث عن هذه التجربة قائلاً: “الثقافة هناك مختلفة تماماً، لكنني كنت أعرف أن الطلاب الصينيين الذين التقيت بهم في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ودودون جداً. وهذا شجعني على الذهاب إلى هناك وخوض تجربة جديدة كلياً، مثلما فعلت عندما جئت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة”.
وفي الصين، لم يكتفِ ليندسي بتكوين صداقات جديدة، بل تولى أيضاً العناية بالحديقة الجديدة الموجودة على سطح مبنى الجامعة. كما قاد ورش عمل للبستنة شارك فيها طلاب وأساتذة وسكان من القرى المجاورة، وساعد في أبحاث جامعية ذات صلة.
يختتم ليندسي حديثه بالقول: “إذا بذلت جهداً بسيطاً، ستحصل على الكثير بالمقابل. فلا تتردد في خوض التجربة”.
"ConceptAligne": نظام جديد قد يساعد فنافي الفن الرقمي على تنفيذ التعديلات الفنية بدقة أكبر.
أكاشا شبير تستعرض خلال المؤتمر الدولي لتعلم الآلة قدرات نظام GeoPixel متعدد الوسائط الخاصة بمعالجة صور الاستشعار.....
عبدالله وعبدالرحمن المرزوقي ليسا مجرد توأم يشتركان في المظهر فحسب، بل هما أيضاً يتقاسمان شغف بناء نظم.....
اقرأ المزيد