لطالما سخّرت الثورات التقنية عبر التاريخ مصادر الطاقة لإحداث تغييرات عظيمة. على سبيل المثال، اعتمدت الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر على قوة المياه والجاذبية لنسج الملابس من القطن، في حين استطاعت المركبات الأولى أن تعبر القارات في غضون أيام بفضل طاقة البخار بينما كانت هذه الرحلات نفسها تستغرق أشهراً متعددة من قبل. هذا وأدى ابتكار محرك الاحتراق الداخلي إلى إنتاج السيارات والطائرات، التي أعادت تشكيل بنية المدن والاقتصادات المعاصرة.
وربما أننا اليوم على وشك أن نشهد، لا بل إننا نشهد بالفعل، ثورة تقنية أخرى يدفعها الذكاء الاصطناعي الذي يستهلك كميات كبيرة من الطاقة. كما تحدث هذه التغيرات في وقت يسعى فيه العالم إلى خفض انبعاثات الكربون ومكافحة تغير المناخ.
كيف يمكننا إذاً تطوير الذكاء الاصطناعي لتحقيق كامل إمكاناته مع أخذ تأثيره على المناخ في الاعتبار في الوقت نفسه؟
عمل البروفيسور شيرونغ هو، الأستاذ المساعد في قسم تعلم الآلة في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، بالتعاون مع زملائه من مركز الذكاء الاصطناعي التكاملي، على تطوير ما يسمّونه “نظام تشغيل الذكاء الاصطناعي” لإزالة الكربون. وتسعى جهودهم إلى خفض التكاليف العالية لبرامج الذكاء الاصطناعي من خلال الحد من الطاقة المستهلكة عند تطويرها. ويقول البروفيسور هو في هذا الصدد: “يتم هدر كمية مفاجئة من الطاقة في مجال الذكاء الاصطناعي ويمكننا الحد من ذلك. يجب أن يملك الذكاء الاصطناعي في المستقبل بصمة كربونية منخفضة وجدوى اقتصادية وأن ينجح في تمكين البشر.”
يحاول البروفيسور هو وفريقه معالجة موضوع استهلاك الكربون في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال طرق متعددة.
تستلزم منصات الذكاء الاصطناعي ذات القدرة الكبيرة، على غرار النماذج اللغوية الكبيرة مثل “شات جي بي تي” التابع لشركة أوبن أيه أي و”لاما 2″ التابع لشركة فيسبوك، قدراً هائلاً من القدرة الحاسوبية. ولا تشبه الآلات المستخدمة لتدريب هذه النماذج الحواسيب التي نستخدمها في المنزل. يسفّر هو: “لا يتم استخدام حاسوب واحد فحسب، أو حاسوب محمول واحد أو آلة بخادم واحد، لا بل نحتاج إلى مئات الآلات لتدريب نموذج واحد من النماذج على غرار شات جي بي تي. ويدعو ذلك إلى إيجاد طرق لتحقيق كفاءة الطاقة عند استخدام هذه الآلات.”
وهو يُطلق على هذا العنصر من النظام التشغيلي اسم استدامة نموذج الذكاء الاصطناعي. أما الحل، فيكمن في كيفية تواصل الآلات مع بعضها. ويقول: 'التحدي التقني الأكبر الذي يطرح نفسه عند تدريب هذه الآلات هو طريقة تواصلها مع بعضها.'
يشبّه البروفيسور هو مسألة تواصل هذه الآلات بتواصل البشر مع بعضهم، إذ لا تنفك هذه المسألة تشكل معضلة ضمن المنظمات حيث يجب أن تعمل مجموعات كبيرة مع بعضها لتنسيق عملها. فتخصص الشركات قدراً كبيراً من الوقت والجهد لتبادل المعلومات ضمن الفرق، لأن عدم الكفاءة في التواصل بين أعضاء الفريق وبين الفرق المختلفة قد يؤدي إلى خسائر هائلة في الإنتاجية.
وعندما لا تتواصل الحواسيب مع بعضها بكفاءة، يستلزم إنجاز المهام وقتاً إضافياً ويستهلك المزيد من الطاقة. وبدوره يؤدي الاستخدام المتزايد للطاقة إلى ارتفاع حجم انبعاثات الكربون. يضيف هو قائلاً: “لا تنتج التكلفة المرتفعة من حيث الطاقة عن نقل المعلومات، بل عن الوقت الذي تقضيه الآلة في استخدام الطاقة وهي تنتظر الحصول على ردّ من آلة أخرى. لنعتبر مثلاً أنك بعثت رسالة بريد إلكتروني إلى زميل وتوجب عليك الانتظار للحصول على ردّ قبل أن تتمكن من متابعة تنفيذ المشروع.”
“يصعب على البشر التواصل مع بعضهم أحياناً، وكذلك يصعب على الآلات التواصل إن لم تكن منظمة بالشكل الصحيح.”
بعد الانتهاء من تدريب النموذج، يتوجب على المطورين أن يحسنوا أداءه، وهذا ما يُدعى بمرحلة “الضبط” التي ينفذها خبراء مختصون بالتحكم بالأداء. يفسّر البروفيسور هو قائلاً: “يشبه الخبراء الذي يقومون بهذه المهمة فريق سباق الفورمولا 1 الذي يمتلك معرفة كبيرة بكيفية تحسين طريقة عمل نموذج ما.” ولكن مرحلة الضبط تستغرق وقتاً، مهما كان فريق التحكم ماهراً. لا بل ثمة ترابط مباشر بين الوقت الذي يقضيه الأفراد بالعمل على الحاسوب وكمية الطاقة المستهلكة وبالتالي كميات الكربون المنبعثة.
يضيف هو: “علينا أن نضبط أداء الذكاء الاصطناعي بطريقة أذكى تحترم ما أسميه ميزانية الكربون.”
في هذا السياق، يعتمد نظام تشغيل الذكاء الاصطناعي نهجاً يُدعى استدامة ضبط الذكاء الاصطناعي، يعمل وفق القيود التي تفرضها كمية الطاقة التي تُعتبر مناسبة لتحقيق مستوى معين من الضبط. وبحسب هو: “نشغّل الآلات وفق هذه الطريقة لعدد محدود من الساعات ليس إلا، ما يحدّ من انبعاثات الكربون. ويكتشف هذا النهج بمفرده ما هو أفضل مستوى من الضبط ضمن الفترة الزمنية المخصصة له.”
تتعلق المرحلة التالية من نظام تشغيل الذكاء الاصطناعي باستدامة مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي. يجب برمجة مراكز الذكاء الاصطناعي لاستخدام القدر المناسب من الطاقة في الوقت المناسب، تماماً مثل الأجهزة الكهربائية التي تتمتع بكفاءة الطاقة، على غرار البرّادات. وفق هذا التشبيه، يستلزم إكمال برنامج للذكاء الاصطناعي يوماً ونصف باستخدام 50% فحسب من الآلات المتوفرة، بدلاً من أن يستغرق يوماً واحداً باستخدام جميع الآلات، ما يوفّر 25% من الطاقة وانبعاثات الكربون.
بالإضافة إلى ذلك، تشمل استدامة مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي بناء أدوات البرمجة التي تساهم في تقليص الوقت الذي يحتاجه المطورون لإعداد الآلات كي تشغّل برامج الذكاء الاصطناعي. ويفيد هو: “الوقت الذي يهدره المطورون هو وقت مهدور تكون فيه الحواسيب التي تستهلك قدراً كبيراً من الطاقة قيد التشغيل. هذا لأن وقت عمل البشر يرتبط بوقت عمل الآلة، ما يرتبط بدوره بكمية انبعاثات الكربون.”
سبق لزملاء البروفيسور هو في مركز الذكاء الاصطناعي التكاملي أن استخدموا نظام تشغيل الذكاء الاصطناعي لتطوير تطبيق صديق للبيئة ومنخفض التكلفة يكون خياراً بديلاً لروبوتات الدردشة الشعبية مثل “شات جي بي تي” التابع لشركة أوبن أيه أي. كلّف تطوير “فيكونا” مبلغاً مالياً أقل بكثير من “شات جي بي تي” ونتجت عنه كمية انبعاثات منخفضة مقارنة مع هذا الأخير، لكنه حقق 90% من جودة أداء “شات جي بي تي” وفق المستخدمين. وصرّح هو في هذا السياق: “بالنسبة لانبعاثات الكربون، أدت كمية الطاقة المستخدمة لإنتاج شات جي بي تي إلى انبعاث آلاف الأطنان من الكربون في حين أن انبعاثات النموذج الذي طورناه بقيت بحدود الكيلوجرامات.”
يشير اسم فيكونا إلى حيوان يعيش في جنوب أمريكا من أقرباء حيوان اللاما، وقد أُطلق على النموذج الجديد هذا الاسم لأنّه طُور باستخدام النموذج اللغوي “لاما” التابع لشركة فيسبوك. وقد تعاونت جامعة كاليفورنيا في بركلي وجامعة كارنيجي ميلون وجامعة ستانفورد وجامعة كاليفورنيا في سان دييغو وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي على تنفيذ المشروع.
ويؤكد البروفيسور هو أن نظام تشغيل الذكاء الاصطناعي “سعى لأن يكون صديقاً للبيئة منذ اللحظة الأولى، ولم يشكل ذلك اعتباراً لاحقاً لنا. يبدأ تحقيق الأثر من المبادرات المحلية، أي من داخل جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي.”
يحتفي العالم في 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة الضاد في لفتَتٍ يقف فيها العالم.....
فريق بحثي من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وجامعة موناش يبحث في مدى قدرة النماذج اللغوية.....
اقرأ المزيدفريق بحثي من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يفوز بجائزة تقديرية عن دراسة بحثية تشجع الباحثين.....