الذكاء الاصطناعي واللغة العربية: فرصة لتعزيز الهوية الثقافية

Wednesday, December 18, 2024

يحتفي العالم في الـ 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة الضاد في لفتَتٍ يقف فيها العالم تقديراً لأهمية هذه اللغة واعترافاً بدورها في الثقافة والحضارة الإنسانية؛ فاللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والحضارية لشعوب العالم من خلال ما أسهم به مثقفوها وعلماؤها في شتى المجالات.

ولعل أبرز ما يمكننا الإشارة إليه هنا، هو ما أنتجته اللغة العربية وأسهمت في تطويره من علوم مثل الفلك والطب والفيزياء والرياضيات وغيرها من العلوم الأخرى التي لمع بها نجم مجموعة من العلماء الكبار الذين تركوا بصمتهم في قصة تطور العلوم في وقت كانت فيه اللغة العربية هي لغة العلم والعلوم.

 

 

ومن بين هؤلاء العلماء الذين ما يزال اسمهم معنا، نذكر اسم الخوارزمي عالم الرياضيات المشهور الذي ارتبط ذكره في الآونة الأخيرة بلغات البرمجة وعلوم الحاسوب التي من بين فروعها الذكاء الاصطناعي الذي تندرج فيه تقنيات مثل تعلم الآلة، ومعالجة اللغة الطبيعية، والرؤية الحاسوبية وغيرها من التقنيات التي تسعى إلى محاكاة الذكاء البشري.

الذكاء الاصطناعي وتحديات اللغة العربية

رغم أن اللغة العربية تعد من أقدم اللغات الحية المستخدمة والغنية من حيث تراكيبها وصرفها ومعجمها وتنوع ثقافات الناطقين بها، وما تمثله من عمق إبداعي ووجداني وديني مُتجسد في كونها لغة القرآن الكريم ولغة الأدب والشعر، تبقى هناك تحديات عديدة تواجه هذه اللغة وتحد من قوتها وفعاليتها، رغم تحدث أكثر من 550 مليون نسمة بها حول العالم.

ومن هذه التحديات نذكر النقص في الموارد اللغوية المفتوحة المتاحة بالعربية، والتي تطرح مشكلة بالنسبة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي عندما يتعلق الأمر بمعالجة هذه اللغة مقارنة بلغات الأخرى مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية، وهذا رغم وجود العديد من المبادرات والمشاريع التي تسعى إلى سد هذه الفجوة.

قلة مصادر البيانات الضخمة المتعلقة باللغة العربية هي واحدة من المشكلات الأخرى التي تعيق تحقيق أداء عالٍ لتطبيقات الذكاء الاصطناعي القادرة على معالجة هذه اللغة في كل مستوياتها الثقافية والدلالية سواء مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، الأمر الذي يستدعي ضرورة العمل على توفير بيانات متنوعة وشاملة تعكس التنوع الثقافي واللغوي للعالم العربي.

تُعاني العربية أيضاً من قصور كبير في المحتوى المتاح بها على شبكة الإنترنت، حيث أشارت تقارير إلى أن نسبة المحتوى العربي لا تتجاوز 3%. ويعود هذا القصور إلى أسباب عدة منها نقص الاستثمار في تطوير المحتوى الرقمي العربي وقلة الدعم للكتّاب والمبدعين، إضافة إلى أن جزءاً كبيراً منه يتأثر بالترجمة غير الاحترافية مما يؤدي إلى تقليل جودته وفائدته للمستخدمين وللذكاء الاصطناعي على حدٍ سواء.

تدفعنا كل هذه التحديات التي تواجه تعزيز اللغة العربية وتدعم تطورها والحفاظ على موروثها، إلى التساؤل عن الدور الذي يمكن أن يضطلع به الذكاء الاصطناعي في تطوير المحتوى الرقمي باللغة العربية؟ وهل يمكن لهذه التكنولوجيا الإسهام في تحسين الوصول إلى المحتوى بالعربية وتعزيز تنوعه ونوعيته؟

الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية

الواقع أن الذكاء الاصطناعي، يمكن اعتباره باباً من الأبواب التي يمكن للعربية أن تجد من خلاله لنفسها موطئ قدم في العالم الرقمي.

وقد يبدو تحقيق هذا أمراً شبه مستحيل بالنظر لما تطرحه العربية من تحديات بالنسبة للذكاء الاصطناعي، غير أن هذا غير صحيح تماما، فقد تمكن الذكاء الاصطناعي من إحراز تقدم كبير في مجال معالجة اللغة العربية من خلال عدد من الأنظمة التي تم تطويرها بهدف تحسين جودة الترجمات الآلية من وإلى العربية، وذلك رغم تعدد أشكالها الكتابية وصعوبة نظامها النحوي والصرفي.

ولم تتوقف تكنولوجيا معالجة اللغة العربية بالذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، بل إن التطور الهائل الذي شهدته هذه التقنية [معالجة اللغة الطبيعية] أسهم أيضاً في تطوير تطبيقات عديدة تدعم اللغة العربية من خلال تطبيقات توليد أو إنتاج النصوص المكتوبة تلقائيا، والتي يمكنها أن تساعد المستخدمين في فهم اللغة والتعبير عن أفكارهم بطريقة أسرع وأكثر وضوحاً.

لعب الذكاء الاصطناعي كذلك دوراً مهماً في تسهيل عملية الكتابة والتصحيح اللغوي من خلال تطوير أدوات ذكية تساعد في تصحيح الأخطاء اللغوية والنحوية في النصوص العربية، وتقديم اقتراحات لتحسين الأسلوب؛ وليس من شأن هذا فقط أن يسهم في تعزيز حضور اللغة العربية الرقمي ورفع مستوى جودة المحتوى المقدم بها، بل وحتى تعلمها.

المجال السمعي البصري هو أيضاً من بين المجالات التي خطا فيها الذكاء الاصطناعي خطوات مهمة، حيث تم تطوير تقنيات التعرف على الصوت والكلام باللغة العربية، ومثال هذا تطوير أنظمة المساعدة الصوتية مثل “سيري” و”أليكسا” وغيرها من الأنظمة التي أصبحت تدعم اللغة العربية بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي.

ويفتح هذا المجال، بالطبع، بل ويمكن من سهولة التفاعل مع الأجهزة الرقمية باستخدام اللغة العربية، مما يسهم في تسهيل الحياة اليومية لمستخدمي هذه الأنظمة.

وفيما يتعلق بالمجال البصري أو المرئيات، تمكن الذكاء الاصطناعي من تطوير أدوات التعرف على الصور والفيديوهات باللغة العربية؛ فمن خلال تحسين القدرة على التعرف على النصوص المكتوبة باللغة العربية في الصور والفيديوهات، يمكن تطبيق هذه التقنيات في مجالات مثل الأبحاث الأكاديمية، والإعلانات الرقمية، والأنظمة الأمنية.

دور جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي

يندرج ضمن هذه الجهود أيضاً دور جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي المهم باعتبارها ليس فقط كأول جامعة متخصصة في هذا المجال على مستوى العالم، بل وكذلك بحكم موقعها في دولة الإمارات الذي يجعل من اهتمامها باللغة العربية وتعزيز حضورها الرقمي، محوراً استراتيجيا تسعى إلى بلوغه من خلال الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي.

وتنطوي جهود الجامعة على محاور رئيسة عدة تشمل تطوير نماذج لغوية متقدمة بتقنيات التعلم العميق تمكن الآلة من إدراك أكبر لأنماط اللغة العربية. وتهدف هذه النماذج إلى معالجة النصوص وفهمها بشكل أفضل، والإسهام في تطوير تطبيقات ذكية تكون قادرة على القيام بمهام عدة مثل الترجمة الفورية، وتقديم المساعدة الصوتية، وفهم النصوص المكتوبة بخط اليد.

جانب ثانٍ تهتم الجامعة به يخص جانب البحث العلمي حيث تشجع الجامعة على إجراء البحوث الأكاديمية التي تستهدف اللغة العربية من خلال برامج دراسات عُليا وبحوث مشتركة مع جامعات ومراكز بحثية أخرى بهدف النظر في التحديات اللغوية الفريدة للعربية – مثل اللهجات والتراكيب اللغوية المستجدة فيها.

ولعل أبرز مثال على التعاون البحثي المثمر بين جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ومجتمع البحث الدولي هو تطوير نموذج “أطلس شات” الذي يتميز بقدرته على فهم الدارجة المغربية والتحدث بها، حيث تشير نتائج الدراسة إلى أن النموذج قد حقق أداءً أعلى بنسبة 13% مقارنة بنماذج أكبر.

كما أظهرت الدراسة نفسها أن نموذج “أطلس شات”، قد تفوق على نماذج أخرى مثل “لاما” و”جيس” و”أيس جي بي تي” في فهم وتنفيذ التعليمات باللهجة المغربية. كما أنه كان قادراً على تنفيذ مهام معالجة اللغة الطبيعية مثل فهم النصوص وإعادة صياغتها.

آراجين ليدر بورد” هو مشروع آخر شاركت فيه الجامعة يخص تطوير إطار عمل يساعد على تقييم نماذج اللغة العربية الكبيرة. ويهدف إلى تقييم هذا النماذج اعتمادا على ستة معايير رئيسة تشمل مقاييس: الصواب والاكتمال والإيجاز والفائدة والصدق وعدم الإضرار. كما يهدف المشروع إلى توفير منصة مفتوحة تقيم هذه النماذج بموضوعية وتوازن بين الدقة وسهولة الاستخدام.

التفاعل مع المجتمع، هو جانب آخر تسعى من خلاله الجامعة إلى تعزيز وعي المجتمع بالذكاء الاصطناعي وأهميته بالنسبة للغة العربية، وذلك من خلال ورش العمل والندوات التي تنظمها الجامعة أو تلك التي تشارك فيها، والتي تشكل بالنسبة لها منصة لتبادل الأفكار والخبرات والتعرف أكثر على احتياجات الناطقين باللغة العربية.

توفير الموارد المفتوحة هو وجه آخر من الأوجه التي من خلالها تعمل الجامعة على دعم اللغة العربية عبر مكتبات لغوية تسهم في دعم المطورين والباحثين في مجال اللغة العربية. وتشمل هذه الموارد مجموعات البيانات الضخمة ولموارد النصية المفتوحة التي تسهل على الباحثين الوصول إلى المعلومات الضرورية لتحسين النماذج اللغوية الخاصة بالعربية.

نظرة مستقبلية

إن الذكاء الاصطناعي يشكل، فعلا، أداة مهمة وفعالة يمكنها خدمة لغة الضاد، حيث يمكن أن يسهم في حل عدد من التحديات التي تواجهها هذه اللغة من خلال تحقيق التكامل بين التكنولوجيا والتراث الثقافي العربي، وتمكين العربية من تحقيق مزيد من الانتشار والتطور في المستقبل وضمان مكانة بارزة لها في عالم المعرفة الرقمية والتفاعلية.

ومن بين المجالات الواعدة التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم اللغة العربية من خلالها، نذكر أهمية العمل على توثيق الموروث الثقافي لهذه اللغة من خلال تطوير أدوات ذكية لفهم وتحليل النصوص القديمة والمخطوطات، والإسهام – بالتالي – في الحفاظ على التراث الثقافي العربي وحمايته من الاندثار.

يمكن أيضاً للذكاء الاصطناعي أن يعزز الفهم الثقافي بين الشعوب من خلال تطوير أدوات تفاعلية تربط بين التراث العربي والمعرفة العالمية، مما يعزز من دور اللغة العربية في الحفاظ على الهوية الثقافية من جهة، ويسهم في تطوير الحوار بين الثقافات المختلفة من جهة أخرى.

كل هذه التطلعات المستقبلية تكتسي، بالطبع، أهمية استراتيجية من شأنها أن تخدم اللغة العربية وتسهل الوصول إلى مواردها اعتمادا على تقنيات وتطبيقات مبتكرة وحديثة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تأخذ بعين الاعتبار أهمية العوامل الأخلاقية في تطويرها وتصميمها على نحو يجعلها تحافظ على اللغة العربية وآدابها بالتعاون مع اللغويين والمثقفين.

أخبار ذات صلة

thumbnail
Monday, January 27, 2025

أخبار الخريجين: رحلة مواصلة البحث عن الحقيقة

بعد نجاحه في تطوير أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي تساعد في الكشف عن المعلومات المضللة والخاطئة، يركز زين.....

  1. الأبحاث ,
  2. معالجة اللغة الطبيعية ,
  3. النماذج اللغوية الكبيرة ,
  4. الخريجون ,
اقرأ المزيد
thumbnail
Thursday, December 05, 2024

باحثون يطورون أدوات جديدة للتحقق من صحة إجابات النماذج اللغوية الكبيرة

باحثون من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي يطورون أدوات جديدة لتحسين دقة إجابات النماذج اللغوية الكبيرة.....

  1. صحة المعلومات ,
  2. التحقق ,
  3. معالجة اللغة الطبيعية ,
  4. EMNLP ,
  5. النماذج اللغوية الكبيرة ,
  6. البحوث ,
  7. المؤتمرات ,
اقرأ المزيد