عندما وصل روهيت بهارادواج إلى إدنبرة لبدء دراسة الدكتوراة في علوم المعلوماتية، لم يكن يلتحق بواحدة من أعرق الجامعات في العالم فحسب، بل كان يسير أيضاً على خطى أسطورة حيّة: عرّاب الذكاء الاصطناعي جيفري هينتون.
ويعترف بهارادواج بأن هذا الأمر كان من أهم دوافعه لدراسة الدكتوراة في العاصمة الاسكتلندية بعد تخرجه من برنامج الماجستير في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، حيث يقول: “فكرتُ أنني إذا تلقيت عرضاً من جامعة إدنبرة، فمن الطبيعي أن أقبله، لأن عرّاب الذكاء الاصطناعي حصل منها على شهادة الدكتوراة، وهذا بالتأكيد مسار جدير بأن أسير عليه”.
بالنسبة لبهارادواج وغيره من خريجي جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، تُعد جامعة إدنبرة خياراً ممتازاً للخطوة التالية نظراً لشهرتها كمركز رائد في البحث العلمي والتعليم التكنولوجي وتصنيفها بين أفضل الجامعات الأوروبية في علوم الحاسوب. كما أن كلية المعلوماتية فيها تضم مجموعات بحثية رائدة في مجالات تعلم الآلة والرؤية الحاسوبية ومعالجة اللغات الطبيعية وعلم الروبوتات وعلوم البيانات، ولها دور بارز في رسم ملامح الذكاء الاصطناعي الحديث.
لذلك، عندما شارف بهارادواج على إتمام دراسته للماجستير في تعلم الآلة عام 2024، كانت إدنبرة على رأس قائمة وجهاته المفضلة. وهو يستذكر ذلك قائلاً: “اطلعتُ على تصنيف الجامعات وفقاً لمستوى الأبحاث فيها ، خصوصاً في المجالات التي تهمني. ثم بدأتُ أبحث عن الأساتذة الذين تتوافق اهتماماتهم البحثية مع المشاريع التي سبق لي العمل عليها، وقررت أن أراسلهم مباشرة بالبريد الإلكتروني”.
ويضيف: “جاءني رد من مشرفي الحالي هنا في إدنبرة، ودار نقاش بيننا. أخبرني أن لديه مشروعاً صناعياً ضمن برنامج دكتوراة ممول من شريك في القطاع الصناعي، ومعه منحة دراسية. وطلب مني تقديم طلب رسمي، وهكذا بدأت الرحلة”.
يعالج مشروع الدكتوراة الذي يعمل عليه بهارادواج تحدياً ملحاً، وهو كيفية تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي تحافظ على الخصوصية مع تحقيق الفائدة المرجوة منها. ويرتكز بحثه على تطوير نماذج توليدية، ولا سيما نماذج الانتشار، يمكنها إخفاء كل ما يدل على هوية صاحب البيانات عند تخزينها.
وهو يشرح أهمية هذا البحث قائلاً: “هنا في أوروبا، هناك قوانين صارمة مثل اللائحة العامة لحماية البيانات. والشركات تريد الاحتفاظ بالبيانات، لكن هناك حدوداً لما يمكنها فعله. ولكن إذا كانت البيانات لا تتضمن أي معلومات خاصة، فيمكن الاحتفاظ بها إلى أجل غير مسمّى دون أن تنطبق عليها القوانين”.
هذا الأمر يطرح سؤالاً صعباً: إلى أي مدى يمكن حذف معلومات دون أن تفقد البيانات قيمتها؟
يقول بهارادواج: “إذا حذفنا جزءاً كبيراً من المعلومات، فلن يبقى ما يمكن التعلّم منه، وستفقد فائدتها. أما إذا أبقينا جزءاً كبيراً منها، فهذا يشكل انتهاكاً للخصوصية”، مضيفاً أن أكثر ما يشده هو محاولة الموازنة بين الأخلاق والقوانين والقدرات التقنية: “هناك توافق بين ما تريده الأطراف المختلفة. فالشركات تريد بيانات جيدة تمكّنها من تقديم خدمات أفضل. والناس يريدون خدمات أفضل، لكنهم لا يريدون أن تُكشف بياناتهم الخاصة أو يُساء استخدامها. والتحدي هو إيجاد حل يرضي جميع الأطراف”.
وهو يشير إلى أنه يواصل في بحثه الحالي ما كان قد بدأه في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي: “كان موضوع أطروحتي للماجستير التعميم في المجموعات المفتوحة أو التعلم دون وجود تدريب مسبق، أي التعلم من بيانات محدودة أو حتى دون بيانات على الإطلاق”.
يؤكد بهارادواج أنه استفاد من خبراته التي اكتسبها خلال مرحلة الماجستير تحت إشراف الدكتور سلمان خان، الأستاذ المساعد في الرؤية الحاسوبية بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، حيث تعلم تطوير بحوثه بشكل يسمح بتوظيفها في استخدامات عملية. ويضيف قائلاً: “أعجبتني كثيراً طريقته الواضحة في شرح المفاهيم ودقته في تناول الموضوعات. هذا ما شجعني على العمل معه على الرغم من أن تخصصي في الماجستير هو تعلم الآلة بينما يعمل هو في مجال الرؤية الحاسوبية. كان دافعي الأساسي هو تعلّم الجانب النظري والرياضيات ثم توظيفها في تطبيقات عملية. لم أرغب يوماً في دراسة نظرية جافة أو رياضيات بلا فائدة ملموسة. كنت دائماً أريد أن أرى التطبيقات في النهاية، وهو ما ساعدني فيه الدكتور خان”.
وقد تركّز عملهما معاً على اكتشاف الأجسام غير المعروفة، وهو تحدٍّ كبير في مجال الرؤية الحاسوبية، حيث يجب على النماذج التعرف على أجسام لم تصادفها في بيانات التدريب. هذا النوع من التعميم ضروري لاستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في بيئات جديدة تكون فيها مصادفة أجسام غير معروفة هي القاعدة وليست الاستثناء. وتشمل التطبيقات المحتملة لهذا النوع من الأبحاث المركبات ذاتية القيادة، والروبوتات الصناعية، والتصوير الطبي، ورصد البيئة.
قبل الخوض في أبحاث التعلم دون وجود تدريب مسبق، خاض بهارادواج تجربة جريئة خاصة به، حيث بادر بالتواصل المباشر عبر البريد الإلكتروني مع رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي والأستاذ فيها البروفيسور إريك زينغ دون وجود معرفة سابقة بينهما، وهو أمر كرره لاحقاً مع جامعة إدنبرة. وهو يتحدث عن ذلك قائلاً: “رأيت إعلاناً عن جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها باسم الجامعة. بحثتُ عن معلومات عنها، فوجدتُ أن البروفيسور إريك زينغ، وهو أحد أبرز الأساتذة في مجال تعلم الآلة، موجود فيها. قررت التواصل معه مباشرة، فردّ عليّ. وكل ما قاله عن الجامعة جعلني أشعر أنها الخيار المثالي بالنسبة لي”.
هذه الجرأة رافقت بهارادواج منذ طفولته. فعندما كان في العاشرة من عمره، بدأ مشواره كلاعب ألعاب فيديو على يوتيوب، حيث أسس قناة خاصة به، ولم يلبث أن أصبح شريكاً في المنصة. وسرعان ما تحول اهتمامه بالألعاب إلى فضول حول التكنولوجيا المستخدمة في صناعتها، وبحلول سنوات مراهقته بدأ يميل نحو علوم الحاسوب. وعندما جاء وقت الدراسة الجامعية، قرر الالتحاق ببرنامج مزدوج في علوم الحاسوب والرياضيات بمعهد بيرلا للعلوم والتكنولوجيا (بيتس بيلاني)، الذي يُعد من أرقى المؤسسات التعليمية الهندسية في الهند. وهناك تعزز حبه للبحث العلمي خلال سنوات دراسته، ليترسخ في ذهنه أن مستقبله في المجال الأكاديمي.
والآن، بعد أن قطع نصف العالم ليواصل دراسته العليا ويسهم في إحداث تأثير عالمي، يواجه بيئته الجديدة بنفس الروح الإيجابية التي تميزت بها رحلته منذ البداية.
يؤكد بهارادواج أن تجربته في إدنبرة مختلفة تماماً عن تجربته السابقة في أبوظبي. ويوضح قائلاً: “جامعة إدنبرة مختلفة تماماً. فهي جامعة قديمة جداً مقارنة بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. كما أنني هنا أضطر دائماً إلى إلقاء نظرة على تطبيق الطقس لمعرفة إن كان عليّ ارتداء معطف، وهذا أمر لا يحدث في أبوظبي! لكنني أستمتع كثيراً بالحياة هنا”.
ويضيف أن الفروقات لا تقتصر على الطقس والعمر التاريخي للجامعة، بل تمتد إلى البيئة الأكاديمية. فبينما تتميز الجامعتان بسمعة قوية وقيمة تعليمية متميزة، إلا أن جامعة إدنبرة أكثر تنوعاً في التخصصات: “في إدنبرة يلتقي المرء بأشخاص من خلفيات متنوعة جداً ومن تخصصات مختلفة مثل علم النفس والفلسفة. وهذا يتيح فرصاً أكبر للتعلم واكتساب وجهات نظر مختلفة، كما أنه يزيد من فرص التعاون مع أشخاص من مجالات أخرى. فالوجود في بيئة لا تقتصر على التكنولوجيا فقط يمنح المرء عقليّة جديدة”.
يشير بهارادواج إلى أنه رغم عمله على أبحاث متقدمة قائمة على شراكات صناعية، إلا أنه لا يرى مستقبله في القطاع الصناعي، بل في المجال الأكاديمي، حيث يقول: “هدفي النهائي أن أصبح أستاذاً جامعياً. لطالما أحببت التدريس. عندما أشرح مفهوماً للآخرين، فإن ذلك يعزز أيضاً مدى فهمي له. لا أمانع العمل في القطاع الصناعي، لكنني لا أفضل الوظائف التي تقتصر على التحديات الهندسية مثل التوسع التقني. ما يهمني أكثر هو الأفكار والقضايا البحثية، والمجال الأكاديمي يمنحني الحرية لاستكشاف هذا الجانب بشكل أوسع”.
وعلى الرغم من أن مستقبله القريب مرتبط بالمناخ البارد في اسكتلندا، إلا أنه يؤكد أن مكانة جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي ستظل حاضرة في ذاكرته: “لقد منحتني هذه الجامعة الأساس القوي والثقة لكي أطمح لما هو أكبر. وسأبقى ممتناً لذلك دائماً”.
ترحب أول جامعة في العالم مكرَّسة للذكاء الاصطناعي بالطلاب المتميزين من مختلف أنحاء العالم للانضمام إلى برامجها.....
قبل بضع سنوات، اكتشف باحثو الذكاء الاصطناعي ظاهرة مثيرة للاهتمام، وهي أن ترتيب المعلومات في النص يؤثر.....
بفضل نهجه غير التقليدي ونظرته غير الاعتيادية للذكاء، يفتح البروفيسور شِيَا أفقاً جديداً أمام تطوير الذكاء الاصطناعي.....