فهم الإيمان في عصر الذكاء الاصطناعي

Thursday, July 24, 2025

في زمن باتت فيه الآلات قادرة على محاكاة الحوارات، والتعليق على نصوص معقدة، وإسداء النصيحة حول أسئلة الحياة الصعبة، برز سؤال جوهري – ألا وهو: ما هو دور الإيمان في عالم يتغير بفعل الذكاء الاصطناعي؟

ولمناقشة هذا السؤال في محاولة لتلمس العلاقة بين الذكاء الاصطناعي، والروحيات الإيمانية، والقيم الأخلاقية والوقوف على أوجه التباين والتقارب بين هذه العناصر، اجتمع من الإمارات نخبة من العلماء ورجال الدين وخبراء الذكاء الاصطناعي في بيت العائلة الإبراهيمية في العاصمة أبوظبي لتبادل الآراء ووجهات النظر حول هذا الموضوع.

افتتح فعاليات الندوة التي استضافتها جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع “مركز منارة للتعايش والحوار ” تحت عنوان “الإيمان في عصر الذكاء الاصطناعي”، معالي الدكتور علي النعيمي، رئيس مركز منارة للتعايش والحوار الذي أكد في معرض كلمته على أنه “لا يمكن النظر أو التفكير في الإيمان بمعزل عن كل ما يتعلق بالتطور والتقدم”، داعياً المتحدثين إلى مناقشة معنى أن تحيى كإنسان في عصر التقدم التكنولوجي السريع، وما يمكن للتعاليم الإيمانية والرحية أن تقدمه في عالم تسيطر عليه البيانات والخوارزميات بشكل متزايد.

يذكر أن الندوة قد شهدت المشاركة الفعلية لكل من الدكتور إريك زينغ، رئيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وبروفيسور جامعي؛ والدكتورة إليزابيث تشرشل، رئيسة قسم التفاعل بين الإنسان والحاسوب في الجامعة نفسها؛ وجيفري بيرجر، الحاخام المقيم في كنيس موسى بن ميمون؛ والقس المساعد ويل باركلي من كنيسة الجماعة الإنجيلية في أبوظبي؛ والدكتور يوسف جه من مجلس الإمارات للإفتاء.

أسطورة الآلة

بدأ المشاركون الندوة بمحاولة تحديد ما تستطيع الآلات القيام به وما لا تستطيع القيام به، حيث شكلت هذه النقطة محوراً مرجعياً وإطاراً لمناقشة موضوع الندوة وأساساً لتحديد ما يميز الإنسان عن الذكاء الاصطناعي.

وأوضح البروفيسور إريك زينغ أن الذكاء الاصطناعي رغم قدرته على أداء مهام تبدو ذكية، فإنه يظل أداة من صنع الإنسان – وقال: “قد يبدو الذكاء الاصطناعي ذكياً، لكنه في جوهره مجرد آلة تنفذ منطقاً مبرمجاً؛ مضيفاً أنه – على عكس الإنسان – لا يفكر أو يتأمل ولا يستطيع أن يبتكر شيئاً اعتمادا على نفسه كلياً”.

وأشار البروفسور زينغ، في السياق ذاته، إلى أن كل ما تفعله حتى أكثر نظم الذكاء الاصطناعي تقدماً مثل “شات جي بي تي” [ChatGPT] هو محاكاة اللغة فقط من خلال التعرف على الأنماط من كم هائل من النصوص والمواد المكتوبة – وقال: “إنها تتحدث معك وكأنما تتحدث إلى إنسان وتوهمك بذلك، غير أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون كذلك”.

من جهته، رأى الحاخام جيفري بيرجر أن الفرق بين الإنسان والآلة يكمن في الروح – وقال: “البشر فريدون بوعيهم العالي ومتعدد الأبعاد. كما أننا نؤمن أن بداخلنا توجد روح، وأننا خُلقنا على صورة الإله”.  كما اعتبر الدكتور يوسف جه، وفي السياق ذاته، “أن الروح في التصور الإسلامي ليست مجرد وظيفة مادية أو ميكانيكية، بل هي كيان متأصل في الارتباط بالله وله طابع خاص يتجاوز القدرات المادية للآلات؛ فالآلات، بغض النظر عن دقتها أو ذكائها، تفتقر إلى الوعي الذاتي أو القدرة على التفكير في وجودها بشكل تأملي”.

ومن جانبها، أكدت الدكتورة تشرشل على طبيعة الإنسان الاجتماعية كعامل مميز له، مشيرة إلى أن هويتنا لا تتشكل فقط كأفراد، بل كجزء من شبكة اجتماعية تعتمد على التفاعل والتبادل الفكري – وقالت: “نحن لسنا أفراداً، بل جماعة تتبادل الأفكار وتناقش، في حين أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه تطوير فهمه من خلال التواصل أو الملاحظة أو النقاش”.

كما أشار عبدالله عالم، رئيس قسم تفاعل المجتمع الأكاديمي في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، إلى أن فكرة نقص التفاعل البشري-البشري أثارت قلقاً بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على العلاقات الإنسانية. وأوضح أن الأبحاث الحديثة قد أظهرت أن الشباب يلجؤون بشكل متزايد إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي للحصول على المساعدة في العلاج النفسي، والتخطيط للحياة، وحتى الحصول على إجابات لأسئلة وجودية، وهي أدوار كان تقليدياً يقوم بها رجال الدين مثل القساوسة، والحاخامات، والأئمة، والوعاظ.

“إنه حقاً أمر مغرٍ”، يقول القس ويليام باركلي، مشيراً إلى جاذبية الذكاء الاصطناعي الذي يحاكي اللغة البشرية، حيث يمكن للمستخدم “كتابة أفكاره والحصول على ردود تبدو حقيقية”؛ لكنه يحذر – في الوقت نفسه – من أن هذا لا يعدو أن يكون سوى “وهم”، إذ لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل التواصل البشري العميق. ويوضح أن “البشر تواقون للتفاعل والحديث مع بعضهم البعض، وهو ما يجعل العلاقات الإنسانية أمرا لا غنى عنه، لأنها تلبي حاجة عاطفية ووجدانية لا تستطيع التكنولوجيا محاكاتها بالكامل”.

دروس من التاريخ

بالنظر إلى الماضي لاستخلاص العبر والدروس حول كيفية التعامل مع تأثير الذكاء الاصطناعي، دعا الدكتور يوسف جه إلى التأني والحذر بدلاً من التسرع، مستحضراً،  في هذا السياق، مثال المطبعة وتردد الإمبراطورية العثمانية في تبنيها واستخدامها – ما ينظر إليه كثيراً باعتباره ضد التقدم – قد قدم في الواقع منظورات أعمق يمكن التعلم منها.

وأوضح الدكتور قائلاً: “لقد رأى [العثمانيون] أن شيئاً مقدساً سيضيع”، مشيراً إلى مخاوف من أن الممارسة التأملية للخط العربي ستتأثر، مع دلالاتها الروحية العميقة؛ انطلاقاً من طريقة حمل القلم، إلى السكون المرافق لعملية الكتابة، إلى أنواع الخطوط العربية – وليس من قبيل المصادفة أن هذا كان الشكل الأول للفن الإسلامي”.

كما استحضر الدكتور، في السياق ذاته، ثقافة الساموراي في اليابان وأتباعها الذين قاوموا حركة التصنيع ليس بدافع الحنين إلى الماضي، بل لحماية رمز وتقاليد روحية – وقال: “كانوا [الساموراي] قلقين من فقدان ’روح البوشيدو‘، ولذا عارضوا فقدان هذا العنصر المقدس في ثقافتهم”.

وقد أجمع المتحدثون على أن مستقبلاً آمناً بوجود الذكاء الاصطناعي سيعتمد على حماية الجوانب الأساسية من إنسانيتنا والحرص على حمايتها.

ومن جانب آخر، أشار البروفيسور زينغ إلى أن “كل تقنية مستجدة تأتي وتفرز معها مجموعة معقدة من التفاعلات، وكل ثقة بأن الناس سيجدون طرق للتعامل والتكيف مع أي مستجد تقني” – مضيفا أن “الذكاء الاصطناعي قد أدخلنا – بالفعل – في مرحلة قد يرغب فيها البعض في التخلي عن أسلوب حياتهم القديم واكتشاف شيء جديد؛ هذا وقد يجد آخرون في الذكاء الاصطناعي أداة رائعة لإعادة اكتشاف شيء فقدوه وجعله في المتناول”.

وأكدت الدكتورة تشرشل، في سياق متصل، على أهمية التواصل باعتباره الوسيلة الكفيلة برفع التحديات التي قد تطرحها التقنيات الحديثة – وقالت: “إن واجبنا الأخلاقي يحتم علينا التواصل مع بعضنا البعض ومساعدة الآخرين عندما نلحظ أنهم استسلموا للخوف أو الانعزال الذي قد يسهم في تقويض مسار تعلمهم وتطورهم” – مضيفة أن “الدور الحاسم لرجال الدين يتبلور هنا من خلال تسهيل الحوار والتواصل الذي يعزز روح المجتمع الواحد”.

وشدد بدوره القس باركلي على أن التواصل سيكون أداة محورية في القادم من الأشهر والسنوات، خصوصا مع تزايد طرح المزيد من الأسئلة العميقة – وقال: “أعتقد أنه ستكون هناك أسئلة حقيقية مطروحة – هذا إن لم تكن مطروحة بالفعل – حول نظرية المعرفة بما فيها كيف نعرف ما هو الحقيقي بالفعل؟ ومن يتحكم أو له السلطة على البيانات؟ وهل سيكون هناك شفافية لفهم كيفية تفكير الذكاء الاصطناعي للوصول إلى إجابة معينة؟ وأعتقد أنه يجب علينا تحليل هذه الموضوعات “.

وحث الحاخام جيفري بيرجر على ضرورة الانتباه إلى كيفية استخدام الشباب للذكاء الاصطناعي و”تأثيراته المحتملة على تطورهم الفكري والعصبي”، بينما شدد الدكتور يوسف جه على قدرة الذكاء الاصطناعي على تغييرنا، واقترح أن نستخدم ذلك كحافز “للتفكير والتأمل”، مؤكداً أن “ما سيحمينا من التأثير الحتمي لتقليص آفاق وجودنا الإنساني هو إدراكنا للرحابة التي تكمن داخلنا لاكتشاف الإمكانات الواسعة، الأمر الذي يصبح معه الذكاء الاصطناعي أداة للاستكشاف بدلا من أداة لاختزال كياننا كبشر”.

ويعني هذا أنه بدلاً من إحلال الذكاء الاصطناعي محل ما نسعى إلى تحقيقه، فإنه قادر على مساعدتنا على فهم ما نطمح إليه؛ غير أنه – كما أبرزت ذلك هذه الندوة – فإنه يجب علينا أن نستحضر إنسانيتنا حتى يتحقق ذلك، ليس فقط كمستخدمين، بل كمفكرين، ومؤمنين، وكائنات أخلاقية.

وفي ختام الفعالية، قالت بخيتة الرميثي، المدير التنفيذي لمركز منارة للتعايش والحوار: “الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل مرآة.. إنه يعكس مخاوفنا، وآمالنا، وقوتنا، ونقاط ضعفنا.. إنه يطرح علينا وبإلحاح سؤال: أي عالم نطمح إلى بنائه معه؟”

سؤال يستحق، فعلا، أن يستأثر باهتمامنا وانتباهنا المتواصل.

أخبار ذات صلة

thumbnail
Monday, March 24, 2025

جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وجامعة بيركلي تستشرفان مستقبل تعلم الآلة

جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تستضيف ورشة عمل مشتركة مع جامعة بيركلي تحت عنوان "الاتجاهات الناشئة.....

  1. الابتكار ,
  2. جامعة بيركلي ,
  3. ورشة عمل ,
  4. التعاون ,
  5. الأبحاث ,
  6. تعلّم الآلة ,
اقرأ المزيد
thumbnail
Thursday, January 30, 2025

ندوات بحثية: ربط علم الأعصاب بالذكاء الاصطناعي

سوريا نارايانان هاري من "كالتيك" يشرح كيف للدماغ البشري أن يكون نموذجاً مثالياً يمكن محاكاة قدراته لتحسين.....

  1. الذاكرة ,
  2. علم الحاسوب ,
  3. علم الأحياء الحاسوبي ,
  4. علم الأحياء ,
  5. ندوات بحثية ,
اقرأ المزيد