لقد شهدت قدرات الذكاء الاصطناعي تطوراً مذهلاً خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث انتقلنا بسرعة من النماذج اللغوية الكبيرة التي برعت في توليد النصوص إلى النماذج الاستدلالية المتقدمة القادرة على حل مشكلات منطقية ورياضية معقدة. كما أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة عن نماذج أو نظم ذكاء اصطناعي فاعلة مصممة لتنفيذ المهام الموكلة إليها واتخاذ القرارات والتفاعل الديناميكي مع البيئة المحيطة بشكل مستقل.
لكن، مع كل هذا التقدم والتطور المحرز، ما تزال هناك حلقة مفقودة في أحجية الوصول إلى مستويات ذكاء الإنسان – أي الوصول إلى نموذج ذكاء اصطناعي شامل قادر على تحقيق فهم متكامل للعالم المادي من حولنا والمجتمع، وبالتالي قادر على الدفع بعمليات الفهم والاستدلال المعقدة واتخاذ قرارات استراتيجية.
إن تطوير نماذج قادرة على فهم العالم والتفاعل معه، سيشكل – فعلاً – منعطفاً في تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، نظراً لقدرة هذه النظم على محاكاة العمليات المعرفية التي يستخدمها الإنسان لفهم بيئته والتفاعل معها – وهذا ما حاولت شركات عدة الوصول إليه، إلا أن النتائج [إلى الآن] لا ترقى إلى مستوى التطلعات، حيث إن نظم الذكاء الاصطناعي إما مخصصة لمجال معين (مثل الألعاب أو المركبات الذاتية القيادة) أو أنها تفتقر للقدرة على الحفاظ على تماسكها أو تدعم نظم قادرة فقط على التفاعل مع عوالم افتراضية.
ورفعاً لهذا التحدي، عمل فريق من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي على تطوير نموذج “PAN”، وهو نموذج ذكاء اصطناعي من الجيل الجديد والمتطور القادر على فهم العالم والتفاعل معه هدفه إحداث ثورة في الفهم والاستدلال الآلي وفي كيفية التفاعل مع سيناريوهات متنوعة بدءاً من بيئات مادية بسيطة إلى التفاعل مع نظم ذكاء اصطناعي متعددة عالية التعقيد.
لقد تم تصميم نموذج “PAN” وتطويره ليتجاوز حدود نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية، مستفيداً من أحدث التقنيات والأبحاث ليأذن بانطلاق عصرٍ جديدٍ للفهم والاستدلال الحاسوبي، حيث سيتمكن الباحثون باستخدام “PAN” من تطوير نظم ذكاء اصطناعي مساعدة [AI agents] أكثر كفاءة ومجربة في بيئة محاكاة آمنة قبل استخدامها وتشغيلها في العالم الحقيقي. كما سيمكن هذا المطورين من تحسين فهمهم بشكل مستمر لهذه النظم من خلال عمليات المحاكاة المتكررة.
يمكن لـ”PAN” أيضاً، اعتماداً على فهمه لسيناريوهات افتراضية شاملة، تسهيل عملية الفهم والاستدلال المعقدة الخاصة بالأفعال والنتائج والتفاعلات، وهو ما يتجاوز قدرة نظم الذكاء الاصطناعي التقليدية؛ فبالنسبة لنموذج قادر على فهم العالم والتفاعل معه – على سبيل المثال – إذا اصطدمت سيارة ذاتية القيادة بجدار أو أسقط روبوت أطباقاً كان يرصها أو فشل في تجربة ما، فإن نظم الذكاء الاصطناعي المساعدة [AI agents] التي تقف وراء هذه السيناريوهات الافتراضية يمكنها التعلم من أخطائها وتكرر التجربة مرة أخرى داخل منظومة نموذج “PAN” دون أي عواقب أو تداعيات حقيقية.
نموذج “PAN” كذلك بإمكانه تعزيز مستويات موثوقية وسلاسة عمل نظم الذكاء الاصطناعي في البيئات غير المتوقعة أو الدائمة التغير مما يساعدها [أي نظم الذكاء الاصطناعي] على تطوير مهارات بالغة الأهمية مرتبطة بمجالات مثل: إدارة الكوارث والرعاية الصحية والتخطيط الاستراتيجي للدفاع – والتي يمكن أن تكون فيها التجارب الواقعية محفوفة بالمخاطر أو مكلفة أو مستحيلة ببساطة؛ فعلى سبيل المثال، نموذج “PAN” – بقدراته هذه – يمكنه مساعدة المسؤولين على إدارة المدن من محاكاة الآثار المترتبة على التقلبات أو الحالات الجوية الاستثنائية كحالة إعصار يضرب مجتمعاً محلياً ووضع خطط للتخفيف من آثاره. كما يمكنه مساعدة الباحثين في تنفيذ عمليات محاكاة شاملة ودقيقة، تمكنهم من توقع التحديات المحتملة والاستعداد لها والتخفيف من حدتها قبل وقوعها بفترة.
على العكس من النماذج التوليدية التقليدية التي تعرف هيمنة النماذج اللغوية الكبيرة عليها مثل “جي بي تي-4″ و”جيمني” و”لاما” التي تعمل أساسا وفق منطق يتنبأ بالكلمة أو العنصر اللغوي التالي اعتماداً على مجموعات كبيرة من البيانات النصية، فإن نموذج “PAN” يتخطى هذا الإطار التقليدي بنقل قدراته التنبؤية من مجرد توليد لغة إلى التنبؤ بحالة العالم أو البيئة المحيطة.
ويعتقد فريق جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي البحثي الذي يقف وراء تطوير نموذج “PAN” أن الانتقال من نماذج تتنبؤ بالكلمات إلى نماذج تتنبؤ بما يوجد في البيئة المحيطة أو العالم وتتفاعل معه يعد أمراً بل ويعد خطوة بالغة الأهمية، ستمكن نظم الذكاء الاصطناعي من أداء مهام متنوعة وغنية من حيث سياقاتها تتطلب تفاعلاً مباشراً مع الواقع المادي وتنفيذ تحليلات استراتيجية معقدة وتخطيط متقدم طويل الأمد.
إن تحقيق هذا الأداء يتسنى لنموذج “PAN” من خلال دمج مجموعة واسعة من المدخلات متعددة الوسائط بما فيها: اللغة، والفيديو والبيانات المكانية والتفاعل مع العالم، والتي تمكن “PAN” من بناء تمثيلات مفصلة للعالم أو البيئة المحيطة. كما أن “PAN” – على عكس النماذج الخاصة بالمركبات الذاتية القيادة أو العمليات الروبوتية المتخصصة مثلا – فإنه يتمتع بالقدرة على تعميم تجربته ومعرفته على عدة مجالات والحفاظ على تحكمه في البيئات الافتراضية وقدرته على التكيف مع الظروف والسيناريوهات المتغيرة.
واحدة من أقوى الميزات التي تميز نموذج “PAN” قدرته على تنفيذ عمليات تفكير أو استدلال متعدد المستويات في فضاء كامن [فضاء تفكير باطني دون عرض لخطوات هذا التفكير] .
يعد الاستدلال ضمن فضاء كامن مفهوماً مركزياً يدخل في هيكلية نموذج “PAN” ويساعده على الجمع بين قدرات التفكير المجرد وفهم التفاصيل الحسية بيسر وسهولة. ويُمكن هذا النهج المتقدم نموذج “PAN” من محاكاة عدة سيناريوهات وتناول التفكير فيها من زوايا متنوعة وسياقات زمنية مختلفة. كما يُمكن هذا النهج نموذج “PAN” من التعامل مع التفاعلات المادية الفورية مثل عمليات التشغيل الروبوتي بالإضافة إلى القدرة على تنفيذ المهام الاستراتيجية الطويلة الأمد التي تتطلب قرارات منسقة بين نظم ذكاء اصطناعي مساعدة [AI agents] متعددة.
تدعم أيضاً هيكلية نموذج “PAN” التفاعلات الديناميكية في الوقت الفعلي، مما يسهل التعديلات والإجراءات السريعة المرافقة لتقدم عملية المحاكاة والموازية لظهور سيناريوهات جديدة.
تمتد قدرة نموذج “PAN” على المحاكاة إلى ما هو أبعد من السيناريوهات التقليدية، حيث يربط بين البيئات المادية الواقعية والعوالم السريالية أو الافتراضية، حيث يمكنه التنقل بكل سهولة بين عوالم ومنظومات مختلفة تماماً – من بيئة عاصفة ثلجية إلى غابة مطيرة خصبة ثم إلى منظر بركان نشط. تؤكد هذه القدرة على الانتقال السلس والمتواصل بين عوالم مختلفة قوة نموذج “PAN” في التعامل مع ظروف هذه البيئات المختلفة والمتنوعة للغاية دون المساس بجودة المحاكاة.
علاوة على ذلك، يتفوق نموذج “PAN” في عمليات المحاكاة الطويلة الأمد وهو قادر على الحفاظ على دقتها وجودتها العالية لفترات طويلة.
وتدعم هذه الميزة في نموذج “PAN” بشكل كبير التطبيقات التي تتطلب التفكير الاستباقي البعيد المدى والمرتبط على سبيل المثال: بنمذجة التغير المناخي والتخطيط العمراني المتكامل، والمهام الطويلة الأمد للروبوتات المستقلة ومحاكاة العمليات العسكرية الاستراتيجية المعقدة. تعد قدرة النموذج – الذي طوره باحثون الجامعة – على الحفاظ على دقة عمليات المحاكاة الطويلة ميزة فريدة بين نظم النمذجة الحديثة.
إلى جانب نموذج “PAN” القادر على إنشاء عوالم وسيناريوهات تحاكي العالم الحقيقي، سيقوم فريقه البحثي أيضاً بإطلاق نموذج PAN-Agent – وهو نظام مدمج مبتكر قادر على التفكير على مستويات تجريدية متنوعة، حيث يعتمد [أي PAN-Agent] على السيناريوهات والعوالم الغنية التي ينشئها PAN لأداء مهام تفكير متطورة، تشمل التخطيط المتجسد، واتخاذ القرارات الاستراتيجية، والتعاون بين نظم ذكاء اصطناعي متعددة. يجسد هذا الدمج قوة النماذج القادرة على التفكير والتفاعل مع العالم في تعزيز عمليات اتخاذ القرار في سياقات متنوعة ومعقدة.
وتعزيزاً لقدرات نموذج PAN-Agent يخطط الفريق البحثي من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي الذي يقف وراءه لتوسيع مجالات تشغيل هذا النموذج بما يجعله قادراً على التكيف والتعامل مع منظومات أو عوالم أوسع وسيناريوهات أكثر تنوعاً. كما أنه من المتوقع أن تتطور قدرات نموذج “PAN-Agent” بشكل كبير من خلال التفاعل المستمر والمتواصل والتعلم التعزيزي داخل العوالم الافتراضية الديناميكية والدائمة التغير التي يحاكيها نموذج “PAN”. ويمثل هذا التكامل بين هذين النموذجين خطوة استراتيجية مهمة نحو تطوير نظم ذكاء اصطناعي مستقلة بالكامل ويجعلها قادرة على التكيف بشكل كبير بفعالية مع الظروف المتغيرة الافتراضية وحتى مع ما يتجاوز الظروف الواقعية.
تشير قدرات المحاكاة المتقدمة التي يوفرها “PAN” إلى تحول كبير نحو الاستدلال المحاكي، وهي آلية تتماشى بعمق مع العمليات المعرفية البشرية. ولا يمثل “PAN”، من خلال تمكين أنظمة الذكاء الاصطناعي من تصور العوالم الافتراضية واستكشافها ديناميكياً، مجرد تحسين تدريجي عن نماذج الذكاء الاصطناعي المساعد، ولكنه تقدم تحويلي في تطوير الذكاء الاصطناعي.
تمتد الآثار بعيدة المدى لقدرات “PAN” عبر قطاعات متعددة، بما في ذلك الروبوتات، وأنظمة القيادة الذاتية، والتخطيط الاستراتيجي للأعمال، واستراتيجيات الاستجابة للطوارئ، والتنبؤ بالكوارث البيئية. إن التعامل المتطور مع التفاعلات المعقدة وقدرات التنبؤ الدقيقة للغاية تشير إلى إمكانية مطابقة أو حتى تجاوز الحدود المعرفية البشرية في العديد من السياقات الصعبة، خاصة حيث تكون الطرق التقليدية غير كافية أو غير عملية.
كما يتميز “PAN” عن النماذج الأخرى القادرة على فهم العالم من حولها والتفاعل بقدرته على التكامل مع وسائط متعددة شاملة، وبعمق عمليات المحاكاة المتقدمة، وبقدرات استدلالية متطورة يهدف من خلالها مطوروه إلى أن يكون حجر الزاوية في التطورات المستقبلية لنظم الذكاء الاصطناعي المساعدة – وربما حتى نظم الذكاء الاصطناعي فائقة الذكاء.